الرعاية الغائبة والطّوائف اللبنانية اليتيمة

الرعاية الخارجية الغائبة والطّوائف اللبنانية اليتيمة

15 يناير 2022
+ الخط -

تبحث الطّوائف اللّبنانيّة في ظلّ تفاقم الصّراعات الكبرى في المنطقة عن موقع في خريطة البلاد الجديدة التي تُرسم على إيقاع التّصعيد العسكري والأمني في اليمن والعراق وسورية. وكانت كلّ طائفةٍ قد اعتادت أن تلوذ براع خارجي ما، وأن تربط نفسها به لتصبح جزءا من مشروعه في المنطقة، وأن تقارع لاحتلال موقعها في الدّاخل اللّبناني، انطلاقا من مدى تأثير هذا الرّاعي ووزنه.

لم يعد مثل هذا التّوظيف قائماً، إذ فقدت الطّوائف اللّبنانيّة رعاتها الخارجيّين، وباتت مضطرةً إلى بناء مواقعها انطلاقاً من أصداء الصراعات الدّولية في المنطقة والعالم، والتي لا تحتل فيها موقعاً مميّزاً، بل لا تعدو كونها، في أحسن الأحوال، أدوات فرعيّة يمكن الاستغناء عنها والتخلص منها. وينطبق هذا الواقع على الجميع، ويشمل الطّائفة الشّيعيّة الّتي مثّلت استثماراً عسكرياً بارزاً للرّاعي الإيراني من خلال حزب الله. ويسرّع مسار المفاوضات النووية بين إيران والغرب، والشّكل الّذي تُرسم فيه مناطق النّفوذ في المنطقة، من عملية التّخلي عن رعاية الحزب، وذلك بعد أن يتم الاستفادة منه إلى أقصى الحدود الممكنة، ودفعه إلى سلوكات انتحاريّة تصبّ في صالحها، ولكنها، في الآن نفسه، تؤكد نهاية دوره وموقع الطائفة الّتي يصادر قرارها في مستقبل البلاد.

فقدت الطّوائف اللّبنانيّة رعاتها الخارجيّين، وباتت مضطرةً إلى بناء مواقعها انطلاقاً من أصداء الصراعات الدّولية في المنطقة والعالم

تتوزّع القوى المسيحيّة الّتي تقف الطائفة المارونية في واجهتها على أحزاب وتيارات تجد نفسها أمام اختبار وجودي، خصوصا بعد أن سقط حلف الأقليّات الّذي كان يدعو إليه التّيار العوني في محاولته ادّعاء تمثيل حقوق المسيحيّين. من ناحية أخرى، يبدو استثمار "القوات اللبنانية" في مقارعة حزب الله والنّفوذ الإيراني، ومحاولة استجلاب رعاية سعوديّة وخليجيّة ودوليّة تحت هذا العنوان، نوعاً من الخلل في التّقدير، لأنّ طبيعة هذا الاستثمار ظرفية وآيلة للتّبدل مع تطور المحادثات بين السّعوديين والإيرانيّين، وكذلك نظرا إلى محدوديّة قدرة "القوات" على إحداث أي تغيير في المعادلات الدّاخليّة. وتتلخص خصوصيّة الطّرف المارونيّ الثاّلث، أي تيار المردة، في انتظار مرور جثث الأعادي على ضفة نهر التّحوّلات الّتي قد تدفع رئيسه إلى موقع رئاسة الجمهورية تحت ظلال رعاية روسية لنظام الأسد، تتطلّب تجانس المواقع في البلدين الواقعين تحت وصايتها.

هذا السيناريو الأكثر ترجيحاً في المرحلة المقبلة لا يعني بأيّ شكل وجود رعاية روسيّة للمسيحيّين، بل على العكس، نزع الرّعاية عنهم، وتحويل موقع الرّئاسة الأولى الّذي يتناحرون عليه إلى صيغة مماثلة لموقع الأسد تحت ظل سيطرتهم، أي إلى صيغة شكليّة فارغة. ومن نافل القول التّأكيد إن وقوع المنطقة تحت النفوذ الروسي يعني خروجها من وضعيّة الرّعاية والاستثمار فيها، وحتى الرّغبة في استغلالها وتوظيفها، ووقوعها في انعدام الوزن والمكانة والموقع.

لم تعد السّعودية تريد أن تكون الدّولة - الأمّة وراعية السّنة، بل أن تكون السعودية وحسب، وكذلك تظهر إيران ميلاً نحو بلورة تنازلات تسمح بتمرير الاتفاق النّووي

تبدو الطّائفة السّنية في هذا المشهد أكثر كاريكاتوريّة من غيرها، فبعد أن كان تيار المستقبل، وهو الأكثر فاعليّة في وسطها، يجاهر بنزع السّنيّة عنه، ويناقش منظرّوه في أنّه ليس سنيّاً، ولكنه ينمو في وسط سني، وجد رئيس التيار، سعد الحريري، نفسه محرجاً، فضرب بهذا المنطق عرض الحائط ليعلن نفسه "بي السنة". ولكنّ عودته المباشرة إلى العنوان الطّائفي جاءت بعد تنازلاتٍ أخرجت هذه الطّائفة من معادلة الحكم والسّلطة محليّاً، ونسفت كلّ الجسور بينها وبين رعاتها الخارجيّين، وعلى رأسهم العربيّة السعودية الّتي باتت تعتبر سنة لبنان عبئا ثقيلا عليها.

ردة فعل الرّعاة المفترضين على طلبات الاسترحام الرّعائيّ الّتي ترسلها شخصيّات سنيّة تحاول احتلال موقع الحريري الشاغر شبه موحّدة، إذ يقتصر تعاملهم مع الشّأن السّني على تقديم مساعداتٍ إغاثيّة تحت عنوان إنساني، ما يعني، قبل كلّ شيء، أنّ هذه الطائفة، على غرار جلّ المكوّنات والطوائف اللّبنانيّة، قد تحوّلت الى جماعةٍ منكوبةٍ لا تصلح لأيّ نوع من أنواع الاستثمار.

تحاول الطّوائف اللّبنانية بناء ظروف معاركها على مشارف الانتخابات النّيابيّة الّتي يصر المجتمع الدّولي على إجرائها، وتحرص على تأمين مواقعها من خلالها. وتتخذ أدوات المعارك مع غياب الرّاعي الخارجيّ وعدم رغبته في التّدخل الفاعل صيغة الشّحن الطّائفيّ، والدّفع بالعناوين الأمنيّة إلى الواجهة، والتّعويل على الانهيار الاقتصادي لمحاولة شراء الولاءات بأبخس الأثمان.

لا تستطيع الطوائف اللبنانية حالياً سوى اللعب على وتر طائفية محلية تناحرية

وكان التّحريض الطّائفي سابقا يرتبط بمشاريع عريضة يمكن بيعها في ظل توفّر الحدّ الأدنى من متطلّبات العيش. كان حزب الله يحرص على تسويق مشروع المقاومة والكرامة، والتّيار العوني كان يستطيع بيع مشروع حقوق المسيحيّين، والسّنة كانوا قادرين على تسويق مشاريع العروبة والتفاهم مع المجتمع الدّوليّ وما إلى ذلك. كلّ هذه المشاريع لم تعد قائمة فعليّاً، والدّول التي كانت ترعاها استبدلتها بمشاريع تنحو إلى الخصوصية، وتمكين الدّاخل والتركيز على المحليّة. لم تعد السّعودية تريد أن تكون الدّولة - الأمّة وراعية السّنة، بل أن تكون السعودية وحسب، وكذلك تظهر إيران ميلاً نحو بلورة تنازلات تسمح بتمرير الاتفاق النّووي، بما يضمن بقاء نظام الحكم. يقع مصير مليشياتها المنتشرة في المنطقة خارج دائرة حساباتها لفترة ما بعد الاتفاق، وكذلك الأمر في ما يخصّ الرّعاية الدّوليّة للمسيحيّين.

ولا تستطيع الطّوائف اللّبنانيّة حالياً سوى اللّعب على وتر طائفيّة محليّة تناحريّة، تشكّل عنوانا لمجزرة عبثيّة ومفتوحة، لا يمكن النّجاة منها. اللّحظة الّتي تليها هي لحظة إعادة إنتاج البلد على هيئة سجن كبير لا يسمح لمن فيه بالخروج إلى العالم، لأنّهم باتوا مدرجين في عداد الموتى الأحياء.