المغرب والجزائر ... والكراهية في الفضاء الرقمي

المغرب والجزائر ... والكراهية في الفضاء الرقمي

02 فبراير 2023
+ الخط -

من يقف وراء إطلاق إشاعة موت المفكر المغربي عبد الله العروي؟ مَن نشر الرسالة الموجَّهة إلى الله والمنسوبة لأدونيس، والتي جرى تداولها أخيرا في فضاءات التواصل الاجتماعي؟ ويُمكن أن نضيف المناوشات الجارية بين المغرب والجزائر، مما أصبحت تتناقله شبكات التواصل، من صور الكراهية والعداء بين شعبيهما، رغم أن الصراع السياسي بين البلدين قديم، وأنه عَرَف منذ ستينيات القرن الماضي مراحل كمون ومراحل انتعاش، في ارتباط مع المآزق والأزمات التي تعرفها بلدانهما. وقد أصبح من حقنا ونحن نُعاين ذلك في شبكات التواصل الاجتماعي أن نتساءل: هل انتقلت المجتمعات البشرية من سلطة الدولة والمؤسسات إلى سلطة الشبكات؟

تضعنا الأسئلة السابقة أمام أحد الإشكالات المرتبطة بعوالم الشبكات، وقد أصبحت تبسُط اليوم سلطتها ونفوذها في مختلف أوجُه حياتنا، وتضعنا أمام فاعلين جُدُد، أمام وسائط تحرّكها تقنيات عالية، وتسمح للجميع بنوع من النفور من النُخب والمؤسّسات والمعارف والفنون، كما تسمح بنوع من التمرّد على مختلف الأنظمة القائمة في الثقافة والسياسة والمجتمع. ومقابل ذلك، ترفع راية الحشود والغاضبين، وتتغنّى بالضجيج والكراهية والعنف، ولا يتردد من يحملون ألويتها داخل منصّات التواصل الاجتماعي، في الإعلاء من شأن الكذب والفضائح المزيفة... كما لا يتردّدون في تركيب المكائد وصناعة الدسائس، من أجل الإساءة إلى الذين يختلفون معهم في الرأي.

اعتدنا في السنوات الأخيرة تسمية العاملين في شبكات التواصل، التي تستخدمها الأنظمة السياسية بالذباب الإلكتروني أو الكتائب الإلكترونية، إلّا أنّ تكاثر هذا الذباب، يُشعرنا اليوم بقدرته الفائقة على إنتاج جحافل جديدة من الكتائب التي تعمل باستقلال عنه، أو تُرَكِّب فضاءات ومواقف تتجاوز التصوّرات والمداخل، التي فكّر فيها الذين رتبوا مواقفه الأولى... فلا يعود أي أحدٍ قادراً على معرفة من يقف وراء مواقف كثيرة متداولة في الفضاء الأزرق بجميع طبقاته ورموزه، وبمختلف أسماء مِنَصَّاتِه وقد تناسلت وتناسخت بصورة لا حدود لها .. كَثُر اللاعبون والمتلاعبون، واختلطت كثير من معطيات الواقع بمنتوج الفضاءات الرقمية. امتلأ السوق ببضائع كثيرة مُناسِبة للطبخ والعَرض في السياسة والاقتصاد والثقافة والحرب. وما يدور اليوم في فضاءات التواصل الاجتماعي بين المغرب والجزائر يندرج ضمن أفق الاختلاط القائم ...

تُنْتِج شبكات التواصل الاجتماعي نَرجسيةً جديدة، بِلَمعانٍ متجدِّد وكذبٍ لا حدود له

انغمس الشباب المغربي والجزائري في التنافس الأعمى والمقارنات الفارغة بلا رقيب ولا حسيب، انغمسوا في حماس زائد في لعبة التقاسم والمشاركة والتعميم، وامتلأت قنوات "يوتيوب" وصفحات "فيسبوك" و"إنستغرام" بالصور والحكايات، وعَمّ الضجيج ولم يعد بإمكان أي أحد وَقْف كل هذا الذي نرى ونسمع.. تطايرت الصور المفبركة والمواقف، وتَمّ توظيف جملة من المعطيات الفنية والرياضية والتاريخية والسياسية في لعبة الصراع السياسي، التي ظلت عقوداً بيد الأنظمة السياسية في البلدين، وأصبحت اليوم تحت سلطة مُحرِّكات وسائط التواصل الاجتماعي، بكل ما تحمله من آليات في الفَبركَة والتجييش .. ولا نستبعد حصول اختلاط وتداخل في الأصابع التي تقف وراء ما يحصل، بحكم مقتضيات لعبة المصالح في التاريخ. وبجوار ذلك، يستمر الواقع في جريانه المعتاد، بمحاذاة عالمٍ سائل يمتلك كثيراً من مفاتيح الفضاءات المُحاذِية للواقع. لكن من يُوَجِّه الآخر؟ ومن يَستعمل الآخر؟ مَن نَسَب الرسالة المُعَمَّمة لأدونيس؟ ومَن أطلق حرب الكراهية في المواقع الإلكترونية بين المغرب والجزائر؟

أصبحنا في النهاية أمام عالم من الأكاذيب والصور، وقد أصبحت تملأ الأرض والسماء، ويصعُب محاصرتها وضبطُ إيقاع عملها وأنظمتها في الفبركة والتلفيق والتزوير والكذب. تجاوزت فنون الكذب اليوم كل ما رَكَّبَتْه البشرية في تاريخها من حِيل وأكاذيب وضلالات. وتقوم مختبرات التزييف اليوم بتكوين كتائب من المكلفين بتلطيخ سمعة الآخرين، قَتْلُهُم وهم أحياء، كِتابَةُ رسائل بأسمائهم، افتعال عداءاتٍ ومنافساتٍ بين شعبين شقيقين في فنون الرياضة والطبخ والغناء واللباس، تدعو إلى العجب! افتعال مناوشاتٍ مغرضةٍ وغض الطَّرف عن أسئلة الراهن في بلدان المغرب العربي، وهي أسئلةٌ تهمّ مجموعة البلدان المغاربية وبدون استثناء، وإطلاق خطابات وصور مفبركة تعمل على تجييش الشباب للانخراط في معارك وهمية لا بداية لها ولا نهاية .. أصبحت الأخبار المزيَّفة عنواناً بارزاً في شبكات التواصل الاجتماعي، ولم يعد بإمكان المُتلقّي اليوم، وسط تلاطم أمواجها العاتية والعالية أن يشكِّك فيها. أصبحت تُعَدّ جزءاً لا يتجزأ من عالمنا. لكن من يتحكم في إنتاج كل هذا الضجيج الذي أصبح يَصُمُّ الآذان؟

انغمس الشباب المغربي والجزائري في التنافس الأعمى والمقارنات الفارغة بلا رقيب ولا حسيب

تُنْتِج شبكات التواصل الاجتماعي نَرجسيةً جديدة، بِلَمعانٍ متجدِّد وكذبٍ لا حدود له. أصبح لدينا اليوم فيض من المعلومات والصور، ولم يَعُد بإمكاننا أن نفحص أو نُشكّك في سلامة كل ما تقذف به مُحرّكات التواصل في طاحونة الشبكات، وقد أصبحت تعمل ليل نهار وبدون انقطاع. وبعد أن حوصر الجميع بخطابات الكراهية والعداء، ونسي الجميع مشروع اتحاد المغرب العربي، أصبحنا سُجناء ما يُعْرَف بالديكتاتورية الخفيّة للعالم الرقمي ومحرّكاته ... انتقلنا بسرعة كبيرة من القوانين التي ترسمها الدولة، وتضع لها المؤسّسات التي تُشرف على تنفيذ إجراءاتها، إلى مجتمع الشبكات الذي لا حدود لأرضه وسمائه. تَحَوَّلْنا إلى كائناتٍ رقمية، تسبح في فضاءات لا ضوابط قانونية وأخلاقية تحكمها.

تُفهم الخلافات بين المغرب والجزائر بمنطق السياسة والتاريخ، وتؤجّجها السياقات والشروط الإقليمية والدولية المحيطة بها، وقد تساهم في تقليص وفرز مداخل تسمح ببناء ما يتجاوزها. وعندما نتأمل ما يجرى اليوم بين البلدين في الفضاءات الرقمية، يمكننا تشخيص كثير من أوجُه المواقف التي يجرى تداولها بصورةٍ لا علاقة لها بمواقفهما، حيث تتطاير أحلام وأوهام كثيرة في تمجيد هذا النظام أو ذاك، وتنشأ مقارناتٌ في التمييز بينهما. وإذا كان من حقّ الساسة أن يستخدموا أحكاماً متطايرة في الفضاء الأزرق، فإن من وظائف المثقفين والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، تحليل الأبعاد الأخرى لموضوعات الخلاف، وفي مقدّمتها مؤسّسة الاتحاد، من أجل وقف التوتر والحدّ من إمكانات تصعيده، والعمل على رَدِّ الاعتبار لمشروع المغرب الكبير بثرواته وتاريخه، ومختلف المكوِّنات التي تصنع من غرب الوطن العربي أفقاً للبناء والتقدّم.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".