الهند في قلب لعبة الأمم

الهند في قلب لعبة الأمم

03 مايو 2022
+ الخط -

لم تمت تلك الحضارة الهندية التي رسمت معالم الحضارات القديمة، كما أنها لم تغب عن الحضور الدولي، سواء في الاقتصاد أو في التأثير على القرارات الدولية، بل استمرت في صنع التاريخ الحضاري البشري، ورسم سياسات الدول وشبك تحالفاتها، ولو بنسب متفاوتة عبر الزمان.
حضارة تقع في جنوب آسيا، وسط جغرافيا مطلّة على أكثر من بحر ومحيط، وعلى حدود دول تعدّ رئيسية في الصراع الدائر اليوم، سيما تلك الحدود الطويلة مع الصين وأفغانستان، ما يجعلها تفرض توازنًا إقليميًا ودوليًا، بحيث لا يمكن لأيّ دولة تخطّي هذا الدور.
لم تأخذ الهند موقفًا مؤيدًا مما يجري في شرق أوروبا، ولم تتموضع في محور دون آخر، رغم الطلب الأميركي المستمر، الذي يسعى إلى تشكيل كتلة دولية لمعاقبة روسيا على عدوانها على أوكرانيا. بل لم تزل سياساتها ترتكز على مسك العصا من وسطها، ساعية إلى تطبيق سياسة الحياد، ولكن على حذر، منتظرة ما ستكون عليه الأسابيع المقبلة من تطوّرات ميدانية تفرض واقعًا جديدًا على الساحة العالمية.
لقد تحكّمت لغة الصفقات العسكرية بين الهند وروسيا في إحجام الأولى عن إدانة غزو الثانية أوكرانيا، ورفضها الهجوم على موسكو في قاعات الأمم المتحدة، وحرصها، تزامنًا مع ذلك كله، على تعزيز أواصر العلاقة بين البلدين، حتى أنّ نيودلهي لم تكترث لسخط معسكر الغرب، حيث واصلت إنعاش العلاقات الاقتصادية مع موسكو. وفي ظلّ العقوبات المؤلمة التي تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا على الكرملين، لا موقف هندياً حاسماً؛ هنا يطرح السؤال الأساسي: لماذا لم تستطع الهند حسم موقفها في ظلّ الانقسام الدولي العمودي المتأزم نتيجة الحرب الدائرة في أوكرانيا؟

للهند علاقات مزدوجة مع الولايات المتحدة والغرب، وعلاقات دفاعية واستراتيجية مع روسيا من جهة أخرى

هناك عدة أسباب تدفع الهند إلى تفعيل التوازن الدبلوماسي بين الخصمين المتقاتلين، لأنّ لهذا البلد علاقات مزدوجة مع الولايات المتحدة والغرب، وعلاقات دفاعية واستراتيجية مع روسيا من جهة أخرى... تجمعه شراكة استراتيجية مع روسيا، لأنه عضو ضمن مجموعة "بريكس BRICS"، التي أنشئت عام 2006، بهدف فرض توازن اقتصادي دولي أمام عولمة الولايات المتحدة، ولردع شركاتها العملاقة عن الاستئثار وحيدةً في الاقتصاد العالمي. والعلاقات الدبلوماسية لا تقف هنا، بل هي مرتبطة بمواقف روسيا في الأمم المتحدة واستعمالها حق النقض (الفيتو) لصالح الهند في الخلافات بشأن إقليم كشمير مع باكستان. على الصعيد الدفاعي العسكري، تعتمد الهند في تطوير منظوماتها الدفاعية على روسيا لتسليح جيشها، إذ لا تزال موسكو المورد الرئيسي للأسلحة إليها، رغم انخفاض حصتها من 70% إلى 49% بعد قرار الهند تنويع مصادر تسلحها وتعزيز صناعاتها الوطنية العسكرية. في هذا الإطار، تسبّبت صفقة أسلحة بين الهند وروسيا بـ"صداع" لأميركا؛ إذ تواجه استراتيجية إدارة الرئيس جو بايدن في المحيط الهادئ اختبارًا كبيرًا، عندما أبرمت صفقة شراء "أس 400" من روسيا.
في بالمقابل، للهند عدو مشترك مع الغرب، الصين التي شهدت حدودهما المشتركة حروبًا بين جيشيهما، ولو بالوسائل البدائية. هذا ما دفعها إلى تأسيس شراكة قوية، دعمتها، إضافة إلى الولايات المتحدة، اليابان وأستراليا، تجلّت بتحالف "كواد"، القائم على مواجهة الصين. ولا تقف العلاقة بينهما على الشراكة العسكرية – الدفاعية فقط، بل أصبحت الولايات المتحدة الشريك الاقتصادي الأول للهند، حيث وصل حجم تبادل التجارة بينهما على السلع والخدمات إلى 147 مليار دولار نهاية عام 2019.
بناءً على هذا، تجد الهند أنّها مضطرّة لإعادة دورها التاريخي ضمن استراتيجية "عدم الانحياز"، وهي استراتيجية نشطت بعد الحرب الباردة التي وقعت بعد الحرب العالمية الثانية، بين معسكرين؛ الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمتمثل بحلف شمال الأطلسي، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي. تهدف هذه الحركة إلى تعالي الدول عن الصراعات القائمة في العالم، وعدم التدخل لمصلحة أي معسكر، وكان أبرز مؤسسي هذه الحركة، رئيس وزراء الهند، جواهر لال نهرو.

قد لا ينفع الهند البقاء على حياد مع اشتداد الأزمة في أوكرانيا، بل حتمًا ستكون إلى جانب واحدٍ من محاور الصراع القائم

صحيحٌ أنّ الهند تسعى إلى إعادة دورها في تطبيق سياسة عدم الانحياز، لما لها من مصالح على مختلف الأصعدة بين الفريقين المتقاتلين، إلا أنّ المؤكد أنه، مع اشتداد الأزمة في أوكرانيا، وسط التهديد الذي أطلقه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بتحذيره من اندلاع "حرب عالمية ثالثة"، قد لا ينفعها البقاء على حياد، بل حتمًا ستكون إلى جانب واحدٍ من محاور الصراع القائم.
لا تلوح في الأفق بوادر حلول لما يحصل في أوكرانيا، وإنّ روسيا قد أقفلت الطريق على كل الحلول الدبلوماسية، وسط استمرار الغرب في تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، على حدّ قول وزير خارجيتها، سيرغي لافروف. إذ لا يتوقف هذا الدعم عن تقديم الأسلحة الدفاعية، بل يبدو أن هناك إصرارا من الغرب على دعم كييف بأسلحة خطيرة وثقيلة وهجومية. وما تصريح رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، إلا دليل على ذلك، عندما غرّد قائلًا إنه "لا يجب أن نسمح لبوتين أن ينتصر في أوكرانيا".
أخيرًا، أمام مشهدية الحرب الدائرة في شرق أوروبا، أسقطت مقولة الحرب الباردة، لتكرّس مكانها الحرب العالمية الثالثة؛ إذ إنّ استمراريتها ستدفع حتماً إلى حروب في مناطق أخرى من العالم، عندها ستجد الهند نفسها أقرب إلى التموضع الغربي منها إلى التموضع الروسي، لا سيما أنّ حليفة روسيا الرئيسية (الصين)، هي عدوة الهند الأساسية.

B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
جيرار ديب
كاتب وأستاذ جامعي لبناني
جيرار ديب