تزايد جرائم الشارع في مصر .. أي جدل وأية خطورة؟

تزايد جرائم الشارع في مصر .. أي جدل وأية خطورة؟

19 نوفمبر 2021

(محمد عبلة)

+ الخط -

زادت جرائم الشارع بشكل كبير في السنوات الماضية، وتراكمت مظاهر بشاعتها وصولا إلى تكرار جرائم الذبح في الظهيرة ووسط الناس، في واحدة من أهدأ محافظات الجمهورية مثل الإسماعيلية، حيث ذبح أحد البلطجية مواطنا آخر وسار برأسه وسط الشارع. وفي التوقيت نفسه، وقعت عدة جرائم بشعة في محافظات أخرى كالفيوم، حيث احتجز زوج مسجل خطر زوجته وأولاده وحماته وأقرباء زوجته وأطفالا من عائلتها، بعدما اكتشف أنهم يعملون في الدعارة، وهدد بقتلهم جميعاً. وعلى مدار اليومين اللذين تزامنا مع حادث الإسماعيلية، كانت هناك مفاوضات معه، منعاً لحدوث مذبحة، وأقفل الأمن الطريق الدائري، وانتهي بإصابته بطلقة في الرأس من قوات الأمن، بعد أن قتل حماته بالفعل، باعتبارها المسؤولة الأولى عن تكوين شبكة الدعارة المتورّطة فيها زوجته. ويوميا هناك عشرات أحداث البلطجة في الشارع، سواء ما يتسرّب منها إلى الإعلام و"السوشيال ميديا" أو ما يُسكت عنه ويُحل بصمت.
على إثر جريمة الإسماعيلية، انتشر جدل كبير بشأن دور الناس العاديين في الشارع في منع هذه الجرائم، وما إذا كانوا سلبيين أم لا، وما إذا كان امتناعهم عن التدخل صائبا، وأي التصرفات أصوب في ظل الدولة؟ ومقارنات عدة جرت على ألسنة كل من سمعوا بالحدث، أو قرأوا عنه بين تصرّف أجهزة الدولة الأمنية في هذه الحالة وتصرّفها في حال ما إذا كان هذا الشخص يحمل لافتةً مناوئة للسلطة.

بما أنه ليس لدينا دولة بالمعنى القانوني خارج دائرة أمن النظام، فالمفترض أن الناس القادرين يتدخلون لمنع هذه الجرائم

يسوق الفريق القائل إن امتناعهم كان صائبا حججا من قبيل أن هذا شخصٌ مسلح بسلاح أبيض خطير، ويمكنه أن يقتل كثيرين، أو يصيبهم بجراح خطيرة وعاهات مستديمة، وإن منع الجريمة مسؤولية الدولة وحدها. ويطرح هؤلاء تساؤلاتٍ عمّن قال إن مهمة المواطن أنه عندما يلاقي خناقة بسواطير في الشارع أن يتدخل؟ ومتى تنتهى مزايدات السوشيال ميديا على الناس العاديين؟ من منا يقدر أن يدخل خناقة فيها سكاكين أو أي سلاح أبيض، ما لم يكن أحد من أهله في خطر مباشر؟ وأن مهمة فض الخناقات هي مهمة الشرطة وفقط الشرطة! وأن اللوم الوحيد الواقع على الناس هو عدم إبلاغ الشرطة فورا، إذا ثبت أنهم لم يبلغوها أو ثبت إن الشرطة تأخرت غير ذلك ليس مطلوبا من أحد أن يتدخل، وأن بشاعة الجريمة لا تستدعى تحميل الناس كل هذا اللوم، فالجرائم البشعة، كالطعن والدهس، منتشرة في البلدان كافة، ومهمة الناس تتوقف عند حماية نفسها أو التصوير أو طلب الشرطة. ومنطق هؤلاء هو التوقف عن جلد الناس الذين لا حول لهم ولا قوة.
يرى آخرون أن الجزء الأكبر من مهمة منع جرائم الشارع أو الحد منها يقع على من فيه، سواء كان هذا حفاظا على ما يسميه المصريون الجدعنة أو حتى إبقاءً للشكل العام للمجتمع واللحمة المجتمعية وقدر من السكينة يمكن للناس أن يتعايشوا فيه، وسدّا لغياب الدولة في هذه النقطة إلى حين استحضارها إليها، وإجبارها على القيام بواجبها في غياب تام لأية آليات لذلك. والمنطق هنا أن بما أنه ليس لدينا دولة بالمعنى القانوني خارج دائرة أمن النظام، فالمفترض أن الناس القادرين يتدخلون لمنع هذه الجرائم، بل بالعكس يُفترض أن الناس في مناطقها تتعاضد ضد هذه الظواهر، لأنها ستتكاثر في الفترة المقبلة ومنتشرة حاليا، وأن الناس تلعب أي رياضة تحمي بها نفسها وأهلها وجيرانها والضعفاء في الشارع، طالما الدولة شبه غائبة. وهذا لا يعني أن الناس تحلّ محل الدولة. لكن المجتمع المصري، فعليا، يحتاج مواطنين يتدخلون لحل مشكلات يومية قبل تطوّرها إلى فعل إجرامي. وإذا لم يكن هذا موجودا بشكل كبير، كنا رأينا جرائم أكثر، لكن بالتوازي لا بد أن تعظم الدولة من قدرتها على منع الجريمة ومحاربة الممنوعات المنتشرة في السوق أو تقنينها ومنع المواد المخدّرة الفتاكة غير القانونية، من دون إعطاء أي ميزة لأي متعاطٍ إذا ارتكب جرم وإلا فما شرعية الحكومة؟

يحدث الموضوع ولم يتحرّك أحد فورا، يتسرّب شعور لدى الناس أنه طالما لم يتحرّك أحد، إذن، لا يستحق الوضع الحركة أو رد الفعل

فيما ذهب فريق آخر للتحليل النفسي للبحث عن إجابةٍ لسلوك الناس في هذه الحالة، ووجدوها في دراساتٍ عن تأثير المتفرّج، وهي، باختصار، تقول إنه "كلما زاد عدد الأشخاص الحاضرين الذين بإمكانهم تقديم المساعدة لشخصٍ في حالةٍ طارئة، تصرف كل منهم كمراقب ومتفرّج من دون التدخل لتقديم المساعدة، وتفسير هذا لأن كل واحد منهم يقول بالتأكيد هناك شخص غيري سوف يتحرك، في سلسلة من الدراسات الكلاسيكية، وجد الباحثان، بيب لاتان وجون دارلي، أن مقدار الوقت الذي يستغرقه الشاهد على الحالة الطارئة لاتخاذ إجراء المساعدة يختلف باختلاف عدد المراقبين الآخرين الموجودين في الغرفة. في إحدى التجارب، وضع أشخاصٌ في غرفةٍ لملء بعض الاستبيانات. وفي أثناء ذلك، بدأ الدخان يملأ الغرفة. وفي ناحية أخرى، وُضع كل فرد في غرفة بمفرده، وبالطريقة نفسها تسرّب الدخان إلى الغرفة، كانت النتيجة أن 75% من المنفردين قد أبلغوا عن وجود دخان، في حين أن 38% فقط من الغرف المليئة بالمشاركين أبلغوا عن الدخان. كذلك وجدت تجربة أخرى أن حوالي 70% يقدمون المساعدة لامرأة في محنة، حينما يكونون الشاهد الوحيد، بينما تقلصت النسبة إلى 40% حينما كان هناك أشخاص آخرون، وهو ما دعا علماء النفس إلى البحث عن تفسير لهذه الظاهرة، حيث إنها تتناقض مع السلوك البشري الطبيعي الذي يفترض أنه كلما زاد عدد الشهود يكون رد فعلهم أسرع وأقوى.
كانت الإجابة أن العامل الأول وجود أشخاصٍ آخرين ينتج حالة من نشر المسؤولية، فنظراً إلى وجود شاهدين آخرين، فإن الأفراد لا يشعرون بقدر كبير من الضغط لاتخاذ إجراء، حيث يُعتقد أن مسؤولية اتخاذ الإجراءات مشتركة بين جميع الحاضرين. العامل الثاني هو الحاجة إلى التصرّف بطرق صحيحة ومقبولة اجتماعياً. عندما يفشل المراقبون الآخرون في الرد، غالباً ما يأخذ الأفراد هذا إشارة إلى أن الاستجابة ليست ضرورية أو غير مناسبة، يعني طالما بدأ يحدث الموضوع ولم يتحرّك أحد فورا، يتسرّب شعور لدى الناس أنه طالما لم يتحرّك أحد، إذن، لا يستحق الوضع الحركة أو رد الفعل. العامل الثالث أن المتفرّجين أقل عرضة للتدخل، إذا كان الموقف غامضاً، حيث تتفاوت شهادات الشهود تجاه الحدث نفسه بشكل كبير. وهو ما حدث جزئيا في حادث الإسماعيلية، حيث إن شهودا كثيرين قالوا إنهم اعتقدوا أنه حادثة ثأر أو خلاف بين شخصين معرفة أو قتل دفاعا عن الشرف، أو أنه شجار بين اثنين من البلطجية.

إذا ما حصل انحسار شديد في الدور الأمني المتعلق بالمواطن، فإن استمرار الإيمان بفكرة الدولة يصبح عبثا

من وجهة النظر السياسية البحتة، هناك أزمة ثقة في مفهوم حكم القانون، وفي النظام القضائي المصري الذي أصبح مسيسا منذ التعيين فيه والترقيات، وحتى الإجراءات والأحكام، إلى حد يجعل الثقة فيه في أدنى مستوياتها منذ نشأة الدولة المصرية، وهو ما يفسّر تدني مستويات الثقة فيه، واللجوء لطرق أخرى لاستخلاص الحقوق، سواء عبر الأعراف أو البلطجة أو الرشاوي والمحسوبيات، وهي أخطار تتهدّد الدولة والمجتمع والنظام السياسي. يؤكد هذا انهيار مؤشّر حكم القانون في مصر حيث جاءت في تقرير عام 2020 في المرتبة 136 ضمن 139 دولة في المؤشر الذي أصدره مشروع العدالة العالمية، ولا يليها سوى الكونغو الديمقراطية وكمبوديا وفنزويلا.
ووفقا للمؤشّر العربي 2020 (يصدره سنويا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) فإن الثقة في مؤسسات الدولة في أضعف حالاتها، إذ يعتقد 82% من المواطنين بأن الفساد المالي والإداري منتشر جدا ومنتشر إلى حد ما، ويتراوح اعتقاد المصريين حول تطبيق الدولة للقانون بالتساوي ما بين 49% يعتقدون أنها تحابي بعض الفئات، و16% يعتقدون أنها لا تطبق القانون بالتساوي على الإطلاق، فيما يعتقد ثلث المواطنين فقط أنها تطبّق القانون بالتساوي إلى حد كبير، أي أن قرابة ثلثي المصريين لا يعتقدون بوجود المساواة أمام القانون. ومن ثم لا عجب أن أغلب القضايا والمشكلات إما أنها تحلّ عرفيا قبل الوصول إلى الأقسام أو تحل في الأقسام قبل الوصول إلى القضاء أي مناصفة بين القانون والعرف، أو تترك مفتوحة من دون حل، ما يجعلها مصدرا للعنف المفرط في الشارع، أي أننا ما زلنا نعيش في مجتمعٍ تلعب فيه القوة والأعراف الدور الأكبر في حل المشكلات.
في التحليل الأخير، تزايد معدّلات العنف والسلبية تجاهه بهذا الشكل مؤشّر خطير على الدول والمجتمع وعلى النظام السياسي في حد ذاته، بغض النظر عن مدى ديمقراطية هذا النظام، فإن احتكار العنف من خصائص الدولة والسلطة السياسية المسؤولة عنها في الدولة منذ ظهور فكرة الدولة. وفي البلدان الأمنية الشبيهة بمصر، يصبح التمظهر الوحيد للدولة هو في القطاع الأمني، فإذا ما حصل انحسار شديد في الدور الأمني المتعلق بالمواطن، فإن استمرار الإيمان بفكرة الدولة يصبح عبثا، ويصبح انتشار الأسلحة بكل أنواعها أمرا متقبلا لدى المجتمع، وهو ما ينذر باحتمالية استخدامها ضد السلطة، في حالة تعارض السياسات مع المصالح الشخصية، وهو ما يقود إلى انفراط آخر ما تبقى من عقد الدولة، وهو الأمن المفقود أو المنشود.