علم نفس الإبادة أو كيف تقتل بضمير مرتاح

علم نفس الإبادة أو كيف تقتل بضمير مرتاح

02 مايو 2022
+ الخط -

لم يكن في بال الفرنسي بيير كونيسا مؤلف كتاب "صناعة العدو، كيف تقتل بضميرٍ مرتاح" (ترجمة نبيل عجان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، ط2، 2018)، أن الوحشية عند بعض "البشر" ستصل إلى المستويات التي شوهدت في مجزرة حي التضامن في دمشق على يد عناصر من جيش الأسد. لم يخطر على باله أن هناك "بشراً" ستُقتل ليس فقط بضمير مرتاح، وإنما بفخرٍ أيضًا، وربما ستقتل فقط ليتسلّى قاتلوهم، لا ذنب لهم سوى أنهم وُجدوا في المكان الغلط والزمن الغلط.
288 إنسانا بريئاً، بينهم نساء وشيوخ وأطفال جرى إعدامهم بدمٍ باردٍ وبهدوءٍ وتركيزٍ بلا أيِّ مشاعر. ألقوا بهم في حفرةٍ أعدّها الجناة وسط أحد الشوارع. وبعد الانتهاء من إطلاقهم النار على الضحايا واحداً تلو الآخر والتأكد من موتهم، أضرموا النار في الجثث، بإحراق إطارات سيارات وُضعت مُسبقاً في قعر الحفرة. أنجز القتلة مجزرتهم "بإتقان"، وصوّروا تفاصيل المذبحة كاملة وبدقة عالية، ولم يتوانَوا عن أخذ لقطاتٍ تذكارية مروّعة مع توزيع الابتسامات! حتى مجرمو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كانوا يخفون وجوههم خلف أقنعة في أثناء عمليات القتل، بينما حرص مجرمو نظام الأسد على إظهارها وإظهار أنفسهم بدون أيِّ وازع.
جرت عملية القتل بشكل روتيني تماماً، ومن الواضح أن المجرمين قد أعدّوا موقع الإعدام بشروط مثالية من أجل استخدامه المتكرّر، كما أظهرت مقاطع الفيديو المسرّبة أنهم كانوا مرتاحين تمامًا في أثناء تنفيذ عملهم في وضح النهار. لم تبدُ عليهم علائم العجلة أو التوتر. وعلى الأغلب، إنهم من الحي نفسه الذي تسكنه الضحايا. كانوا جيراناً، أمضوا حياتهم مع بعض! لا يمكنك وأنت تشاهد الفيديوهات إلّا أن تنكمش على نفسك وتلملم أجزاء روحك، وتشعر أنك أنت لست كما أنت.
تكرّر هذا المشهد عشرات المرات، بل مئات المرّات، في ريف حماة، وحمص، وكرم اللوز، والحولة، وجديدة عرطوز، وجديدة الفضل، وداريا، ودرعا، وحلب، ودير الزور، وريف دمشق، وغيرها من المناطق السورية التي استباحها جيش الأسد والمليشيات التابعة له على مدار السنوات الماضية. إنها حرب إبادة تبنّاها النظام السوري منذ البداية في مواجهة المنتفضين ضدّه، كانت عملية قتل وتدمير ممنهج للبشر وللحجر.
وربما يسأل أحدنا عن كيفية تَحوّل الإنسان، في لحظات معينة، إلى وحشٍ بشريٍّ فاقد أدنى قيمه الإنسانية؟ كيف يتصرّف المجرم بعد أن تنتهي المذبحة؟ هل يعود إلى بيته ليحتضن أطفاله ويعانق زوجته ويحدّثهم عن مدى حبّه لهم؟ لماذا يحصل كل هذا الجنون البشري؟ ومن المسؤول عنه؟

لا يمكن للمجزرة أن تحصل من دون عملية "تجريد الضحية من إنسانيتها". وبذلك يبتعد القاتل نفسيًا عن ضحيته، فهو لا يشبهها في شيء

تحتاج كل مجزرة إلى سياقين، سياسي واجتماعي، والأهم سياق نفسي يجعلها ممكنة، فعملية الإبادة تبدأ بتخطيطٍ مسبق، وغالبًا ما يكون سلوك القتل والذبح نتيجةً نهائية لسلسلة من الأفعال، لا يتحمّل مسؤوليتها فقط من قام بالقتل الفعلي، وإنما أيضًا مَن هيّأ له ودفعه إليه. هذا السلوك ليس سوى نهاية المجزرة.
تحتاج المجزرة أيديولوجيا تشيطن الآخر وتجعل منه خطرًا، أو مرضًا بوصفه فطرياتٍ وبكتيرياتٍ وجراثيم أو حشرات تهدّد جسم المجتمع والوطن؛ وبالتالي يجب التخلص منه. ألم يصف إعلام هتلر اليهود الألمان بالطابور الخامس، وقبل وقوع المجازر في رواندا كان الإعلام الرسمي على مدار الساعة يصف التوتسي بالصراصير. أما في بلادنا العربية، في ليبيا، وصف معمّر القذافي معارضيه بالجرذان، وفي اليمن اعتبر علي عبد الله صالح من خرج عليه نشازا، بينما وصف بشار الأسد معارضي حكمه "بالجراثيم"، فقط لأنهم تظاهروا ضده وعارضوه. هؤلاء الرؤساء هم مهندسو عمليات الإبادة الجماعية التي كانت في معظمها جزءًا من حرب مقدّسة لحماية الوطن من الأمراض أو المؤامرات الخارجية.
لا يمكن للمجزرة أن تحصل من دون عملية "تجريد الضحية من إنسانيتها". وبذلك يبتعد القاتل نفسيًا عن ضحيته، فهو لا يشبهها في شيء، ولا يمكن أن يشعر معها بشيء. ولذلك لا يثير قتلها فيه أيّ انفعال أو شفقة، بل وحدها الضحيّة من يتحمّل مسؤولية ما حاق بها من مصير. تجريد الضحية من إنسانيتها هي استراتيجية لوضعها خارج دائرة الواجبات الأخلاقية، بحيث لا يكون هناك أي إطار أخلاقي أو عاطفي يربط القاتل بالضحية ويردعه عن القتل، فلرفض العنف لا بد من مشاعر التعاطف مع الضحية. لذلك مهندسو استخدام العنف في أقصى حالاته "القتل" والذي يعدّ محظوراً في كل المجتمعات البشرية، يسعون دائمًا إلى كبت مشاعر التعاطف من خلال السرديات القومية، أو الوطنية، أو الإثنية، أو الطائفية، حيث تُوظّف هذه السرديات لتغيير إدراك المؤيدين لهم، فلا يصبح العنف مجرّد فعل شرعي، وإنما يجري تحويله إلى واجب أخلاقي بطولي لتحقيق العدالة. الميل الممنهج والمنظم لتجريد الضحايا من إنسانيتهم "آدميتهم" عملية حاضرة في جميع حالات القتل الجماعي التي عرفتها البشرية.

لا يمكن للعنف الجماعي أن يستمر من دون ذخيرة مستدامة من العواطف، تعمل هذه الذخيرة على إبقاء الجماهير في حالة عاطفية تُلغي عمل العقل

لا يمكن للمجزرة أن تحصل من دون إسباغ صفة أخلاقية على سلوك القتل، وحتى يظهر القتل كفعل جماعي ضروري أخلاقياً، يجب إشعال مشاعر الغضب والإحساس بالخطر والخوف من فناء الجماعة وإخماد مشاعر التعاطف مع الضحية، كل التصوّرات الذهنية عن الضحايا وعن خطرها وتنميطها مباحة، وهذا ما دأب إعلام نظام الأسد على فعله منذ اليوم الأول للانتفاضة ضده. لا يمكن للعنف الجماعي أن يستمر من دون ذخيرة مستدامة من العواطف، تعمل هذه الذخيرة على إبقاء الجماهير في حالة عاطفية تُلغي عمل العقل، أو تؤطّره، وتدعم العنف وتمدّه بالأدوات اللازمة من مال وأرواح، وتضمن استمراره حتى تتحقق الأهداف السياسية لمهندسي الإبادة الجماعية.
طبعاً، في أثناء الحروب، تحتاج الشعوب دائماً إلى سرديات البطل الملحمي والبطل الحامي الذي يستحقّ أن نضحي من أجله، فهو مُخلّص الجماعة من خطر الفناء. يجمع هذا البطل، إلى جانب شجاعته الفائقة، الذكاء والحنكة النادرة، والوفاء والنبل، والحلم مع الإنسانية تجاه مؤيديه، والبأس والقسوة مع أعدائه فهو يصارع كالفرسان ضد الشر، وهكذا جرت فبركة شخصياتٍ ملحميّة كشخصية العقيد النمر سهيل الحسن والعميد عصام زهر الدين إلى جانب البطل الحامي بشار الأسد، المهندس الأول للمجزرة المستمرة بحق السوريين منذ عام 2011.
مجزرة حي التّضامُن في دمشق واحدة من مئات مثلها ارتكبها النّظام السّوري بحق الشعب السوري، ولكّن، المُختلف فيها، بالإضافة إلى فظاعة المشاهِد، أنَّ مُرتكبيها يعترِفون بالصّوت والصّورة وبابتسامات عريضة أمام الكاميرا، وبكُل فخر واعتزاز بفعلتهم الشّنيعة يعلنون ولاءهم الكامل للمهندس الأول للمجزرة: "لعيونك يا معلم".

EB01B814-698C-4CCC-9ACD-FF0F50FDCC1F
EB01B814-698C-4CCC-9ACD-FF0F50FDCC1F
عزام أمين

كاتب وباحث سوري، دكتوراة في علم النفس الاجتماعي، مدرس في معهد الدوحة للدراسات العليا

عزام أمين