لغة أنقرة غير الدبلوماسية ونتائجها

لغة أنقرة غير الدبلوماسية ونتائجها

03 يناير 2021
+ الخط -

أحرزت تركيا خطوات جريئة للغاية في جبهةٍ تمتد من الشرق الأوسط والبحر المتوسط حتى أوروبا وأميركا طوال العام 2020، لكنها لم تستطع تحقيق أي نتيجة ملموسة، فقد كان خطابها تجاه منافسيها وجيرانها، وحتى أحياناً مع حلفائها، بنبرة عالية، وتعبيرات شديدة القسوة. فأي لغةٍ هذه التي تضعها في موقفٍ محرج، حتى ولو كانت على صوابٍ في معظم القضايا، ما يجعلها تفقد بعض فرص التعاون، وربما خسارتها في طاولة المفاوضات، أو ضياع الصفقات، على الرغم من انتصارها في ساحة المعركة.

كانت، نهاية فبراير/ شباط الماضي، تحركات في شمال سورية، فقد خسر الجيش التركي 39 جندياً هناك، بسبب مواجهات مع روسيا والنظام، فمخاطر تحول التوتر إلى الحرب جعلت الرأي العام التركي قلقا تماماً. ثم بدأت تركيا في أزمات مع دول أوروبية، في مقدمتها فرنسا واليونان، بسبب التطورات في شرق البحر المتوسط الناجمة عن أنشطة الأتراك للتنقيب عن النفط، فقد أُعلِن عن "نافتيكس" واحدة تلو الأخرى، وأرسلت أنقرة سفناً إلى المنطقة. ثم وصلت المشكلات مع اليونان وفرنسا إلى نقطة المواجهة. ولكن على الرغم من هذه التراشقات والتهديدات التي أطلقتها كل أطراف الأزمة، فإن السفينة التي أرسلتها تركيا إلى شرق المتوسط لا تحرّك ساكناً في خليج أنطاليا، إذ لم تنقّب عن النفط أو تعلن "نافتيكس". وعلى الفور، بدأت تركيا تمهد الطريق أمام انطلاق المهاجرين إلى أوروبا الذين قبلتهم في أراضيها لأغراض إنسانية، الأمر الذي فسّره الأوروبيون عنصر ابتزاز تجاه أوروبا. ولذلك تواجه أنقرة الآن عقوباتٍ من الاتحاد الأوروبي بسبب موقفها هذا، وبسبب أنشطتها في شرق البحر المتوسط، والتهديدات التي أطلقتها تجاه الاتحاد الأوروبي. وبالإضافة إلى ذلك، تفرض الولايات المتحدة على أنقرة عقوباتٍ بموجب قانون مكافحة الإرهاب، بسبب شراء أنقرة منظومات الصواريخ أس - 400 من روسيا. وتعد العقوبات الأميركية هذه الخطر الأكبر الذي تواجهه تركيا منذ أزمة قبرص عام 1974.

تعد العقوبات الأميركية الخطر الأكبر الذي تواجهه تركيا منذ أزمة قبرص عام 1974.

باختصار، حاولت أنقرة تحدّي الدول الغربية في عام 2020، لأنها كانت واثقة من أنها ستكون الطرف الفائز في التراشق الإعلامي الذي خاضته مع الدول الغربية، فلغة الاتصال الصعبة هذه، التي تحتوي على تعبيرات قاسية ونبرة عالية تسبب، في الواقع، تفويت فرص التعاون مع الدول الغربية التي لم تكنّ أي مشاعر سلبية تجاه تركيا كما أثبتتها الأحداث، حيث أبدت ألمانيا على لسان المستشارة أنجيلا ميركل، على سبيل المثال، حرص بلادها على التعاون في عدة مجالات، بما فيها التنسيق في ملف التجارة والاقتصاد.

اللغة غير الدبلوماسية عالية النبرة التي تمارسها أنقرة لا تعني سياسة خارجية ناجحة، إذ لم تغير هذه اللغة في الواقع شيئاً لمصلحة تركيا. بالطبع، مارس الرئيس التركي، أردوغان، هذه اللغة بنجاح في أول أعوامه بعد أن تولى السلطة، لكن هذه اللغة التي يستخدمها أردوغان، والوزراء الذين تبنوا هذا الخطاب الناري، تحولت، منذ بداية الربيع العربي، إلى حاجز أمام إقامة علاقاتٍ سليمةٍ، وتكوين لغة اتصال هادئة مع المجتمع الدولي والدول المجاورة.

أدّى النشاط العسكري التركي إلى توسيع نفوذ القوات المسلحة التركية من سورية إلى ليبيا، إلى انتشار جغرافي واسع من الصومال إلى أذربيجان

بعد أن يتولى جو بايدن، صاحب الخبرة العالية في إدارة الدولة والسياسة الخارجية، منصبه رئيساً للولايات المتحدة، سيكون لمصلحة أنقرة أن تتخلّى عن نبرتها العالية هذه. فعلى الرغم من اللغة القاسية والأسلوب الشديد، لم تحقق أنقرة بعد نتائج باهرة في أيٍّ من المجالات، ولم تصل إلى الأهداف المنشودة. ولم تتمكّن أنقرة من التقدّم، ولو ميلاً واحداً، في النزاع الذي خاضته مع الدول الغربية، كذلك نرى أن أعداءها يتزايدون يوماً بعد يوم. وبالتالي، قد يؤدّي سلوك أنقرة غير المتوقع إلى طريق مسدود.

في واقع الأمر، الأزمات التي شهدها مجال الاقتصاد هي نتيجة ثقيلة للصورة التي أنشأتها دولة على موقفٍ غير متوافق مع الجميع تقريباً، فضلاً عن انعدام الثقة في الداخل في مجال الاقتصاد وحقوق الإنسان. أما السبيل الوحيد لتجاوز الأزمة السياسية التي تعيشها أنقرة، فمن المفترض أن تتنازل عن أي خطوةٍ توسّع مجال الخلاف مع المجتمع الدولي تغيير اللغة والخطاب تجاه حلفائها في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وإلا قد تواجه مصيراً أسوأ، خصوصاً في الملف الاقتصادي.

لجأت أنقرة إلى القوة العسكرية الصلبة، بدلاً من اللغة الدبلوماسية التي تخدم المصالح الوطنية التركية

وفي الوقت الذي تسعى فيه بعض البلدان لتكون المناطق المتأزمة داخل مجال نفوذها، محل منافسة جيوسياسية شديدة، لجأت أنقرة إلى القوة العسكرية الصلبة، بدلاً من اللغة الدبلوماسية التي تخدم المصالح الوطنية التركية. لذلك يمكن القول إن هذه المنافسة هي التي تقف وراء التوترات الأخيرة بين فرنسا وتركيا، بالإضافة إلى عوامل أخرى في منطقة واسعة، تمتد من القوقاز إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي النتيجة، أدّى النشاط العسكري التركي إلى توسيع نفوذ القوات المسلحة التركية من سورية إلى ليبيا، إلى انتشار جغرافي واسع من الصومال إلى أذربيجان. في غضون ذلك، رأينا في النصف الثاني من 2020 في شرق المتوسط أن استخدام "القوة الصلبة" أصبح إحدى أهم أولويات تركيا.

ومع ذلك، قد يؤدّي احتمال تعزيز هذا الموقف الذي يعتمد على القوة الصلبة واللغة النارية هذه إلى خطر تقليل أهمية إمكانات دبلوماسية تركيا و"القوة الناعمة" لها، إلا أن تركيا، من وجهة نظر طلب عضويتها في الاتحاد الأوروبي، خلال الفترة التي جرى فيها تنفيذ جميع الإصلاحات الديمقراطية من منظور "القوة الناعمة"، تحولت أيضاً إلى مركز جذب يعمل على جغرافيا شاسعة، تمكّنت من ممارسة تأثير كبير.