لي كوان .. النرجسية التي صنعت سنغافورة

لي كوان .. النرجسية التي صنعت سنغافورة

26 يوليو 2022

عمل تركيبي لتشكيل صورة لي كوان يو في العاصمة سنغافورة (23/3/2016/فرانس برس)

+ الخط -

يصدمك إعلان لي كوان يو الزعيم التاريخي المؤسس لدولة سنغافورة، التي سحرت الشرقيين في نجاحها، وقدّمت نموذجاً تعددياً مذهلاً في التعايش والحقوق الدستورية المدنية، ثم مستوى معيشي وصناعي متطوّر وجاذب للاستثمار ودخل مواطنيها، إيمانه وتأييده العميق للقصف النووي الأميركي لهيروشيما وناغازاكي في اليابان، وأنهُ يؤمن بفكرة الإبادة الكولونيالية، لتطبيقها على جزء من الشعب الياباني، كشعب يعيش توحشا متخلفا حتى توقف الحرب، ولماذا هو كذلك للقصة بقية.
على مدى 25 ساعة سمعية، كانت رحلة كتاب قصة سنغافورة للي كوان، أكثر استيعاباً في تقديري من الورقية، فلفهم الباحث هناك محطّات مهمة للتوقف عندها وهناك عقلٌ نقدي، قد يُفسد عند بعضهم، روح التشوق في قصص السير، وخصوصا أمام شخصية كاريزمية كلي كوان، اجتذبت الشرق والغرب. وقد بدأ تسلسل تمجيده من تقريظات الزعماء الغربيين العالم الكولونيالي، بدءا من الرئيس جورج بوش وتاتشر وشركاء التاج البريطاني في أستراليا ونيوزيلندا، ثم حشد من زعماء العالم.
ولم أنتبه إلى مساهمة شخصيات ملايوية، رغم أن ماليزيا هي الطرف الآخر الرئيسي في معادلة القصة، وهي كإقليم لها تعريفها التاريخي الاجتماعي القديم، والذي ربما حمل كلمة السر لتفسير الموقف الشرس، في روح لي كوان ضد الأمة الملايوية، وليس فقط ضد منظمة آمنو الشريك الأساس في رحلة استقلال سنغافورة، حين ضُمّت مع أرخبيل المسلمين الملايويين، بطلبٍ ملحٍ من لي كوان نفسه.
تحتاج هذه العدائية التاريخية في وجدان لي كوان تفصيلاً مهماً للإنصاف الصعب، بين موقفه وكراهيته كذات سنغافورية (صينية - إنكليزية) ونقده خطايا منظمة آمنو، الممثل الوطني لسكان الأرخبيل الأصليين منذ مئات السنين، وحتى سنغافورة كانت في التاريخ القديم وقبل الهجرات ضمن جغرافيا الملايو، وديمغرافية المسلمين في شرق آسيا، وهي مسألة يحتاج لفهمها القارئ الكريم، حين نحاول فهم معضلة الملايو النفسية لدى لي كوان.

من سرديات لي كوان أن صين ماو تسي تونغ في ثوبها الشيوعي كانت، حسب تعبيره، مشروعا تقدمياً

منذ ميلاده، يسرد لي كوان بالتفصيل قصة حياته، كفاحه الشخصي الاجتماعي قبل أن يصل إلى المرحلة السياسية. وعند أوّل محطات العمل الشبابية تأتي مرحلة الاحتلال الياباني، والتي يتفق خصومه الماليزيون معه فيها، في وصف وحشية تلك الثقافة وحجم احتقارها الذات البشرية خارج الإمبراطور المعبود، أو إمبراطورية الآلهة. يروي لي كوان كيف يُقتل الناس ويعذّبون، وكيف استباحت اليابان الصين وشرق آسيا، واتّخذت نساءهم سُخريّا. حيثُ كانت الصين حينها ضمن مناطق المقاومة، وكان الجيش الياباني إضافة إلى مجازره وقطع الرؤوس، ينقل إلى مناطق نفوذه حشوداً من نساء الصين وشرق آسيا، ويحجزهم في منزل خلال احتلاله ماليزيا وغيرها، وهذه لم تفعلها حتى "داعش"، فتودَع تلك الضحايا من النساء، لتأمين احتياجات الجيش الإمبراطوري الياباني الجنسية، بكل قسوة وانحطاط وسقوط كامل للضمير.
ليست هذه الصورة مشهداً عارضاً، بل سياسة يابانية ممنهجة، وقد أثرت في مفاهيم لي وروحه الصينية المتقدة، التي لم تكن أبداً تتوارى، ولكن هذه الروح ذاتها لا تكاد تراها في حديثه عن شعب ماليزيا القديم، رغم أنهُ كان يعتني بمعاناة الصينيين المهاجرين لماليزيا قديماً وحديثاً.
ومن شواهد مهمة تؤخذ من سرديات لي كوان أن صين ماو تسي تونغ في ثوبها الشيوعي كانت، حسب تعبيره، مشروعا تقدمياً، رغم صراعه التاريخي والخطير مع الحزب الشيوعي الملايوي المتحد، وكل تشكيلات الشيوعيين في الملايو.
يُقارب لي كوان كثيراً تنكو عبد الرحمن، قائد منظمة آمنو ورئيس أول حكومة للاستقلال الوطني في ماليزيا، في موقفه في تقييم ما بين الاستعمار الغربي المغادر والنفوذ الشيوعي، وهي مرحلة دقيقة وخطيرة جداً، لا يمكن للباحث أن يحرّر رؤيته فيها من دون النظر إلى النفوذ السوفييتي والصيني الضخم حينها، في ثوب الأحزاب الشيوعية، والتي كانت تنبتُ كالفِطر في شرق آسيا الحديقة الخلفية.

علينا أن نقف مع إخفاقات الزعماء حين نبحث في تجارب النهضة كما في نجاحاتهم

يواصل لي كوان في رحلته مع تنكو عبد الرحمن التعامل بنرجسية فوقية وسخرية منه، رغم أن خلاصات مواقف تنكو كانت تصبّ في صالح سنغافورة، وخصوصا في مآلها الأخير، أي إصرار تنكو عبد الرحمن على منح سنغافورة استقلالها التام، لا الجزئي. وهنا كان كلٌ من تنكو عبد الرحمن ولي كوان يعتقدان أن التعامل بالكفاح المدني الدستوري والسياسي، لإخراج الاستعمار الغربي، أفضل بمراحل من الانضمام الى الصراع الشيوعي المسلح والسياسي، ضد الغرب، وهي نظرة يؤيدها مآلات الأمور في مستعمرات الغرب وواقع شرق آسيا.
في كل مرحلة، قدّم لي كوان دليل مشاركته، ليس في صناعة سنغافورة وحدها، ولكن في خلق ماليزيا التي انفصل عنها وأخذ موقفاً عدائيا من أمتها القومية، كما هو في رحلته في عالم السياسة والعبور بين اللقاءات السرية مع الصينيين الشيوعيين في سنغافورة، وبين رحلته الإنكليزية الدافئة في كل فصولها، وقدرته على كسب الثقة المطلقة منهم، فضلا عن أنهُ قدم ذاته قائداً ناجحاً في احتواء الملايويين، الذين غَمز منهم ومن إسلامهم، بصورة غريبة.
تعجب كيف يستخدم لي كوان ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول التقديم، ثم يكتب في عنوان أهم فصل من كتابه، "طالق طالق طالق"، في إشارة إلى علاقة انفصال سنغافورة بمفهوم الطلاق في الشريعة، موقف أقل ما يقال عنه إنهُ سخيف، تضخّمت فيه نرجسية لي كوان كثيراً من دون مبرر.
أين هو تقدير تلك النرجسية في مشروع لي كوان في صناعة سنغافورة، هل هو مبرّر أم هو ضرورةٌ لكي ينجز الزعماء مشاريعهم العظيمة؟ هذه نسبية نتركها للقارئ، لكن علينا أن نقف مع إخفاقات الزعماء حين نبحث في تجارب النهضة كما في نجاحاتهم.