مجدّداً .. لماذا بيان تأميم سورية؟

مجدّداً .. لماذا بيان تأميم سورية؟

23 فبراير 2022
+ الخط -

أثار مصطلح "تأميم السياسة السورية"، في مقال الكاتب "بيان تأميم سورية" في "العربي الجديد" (22/11/2021)، تساؤلاتٍ تدفع المرء إلى التفاعل إيجابًا معها ومع سياقات طرحها، وتحيل بمجملها على ماهية الفعل القادم: ماذا علينا أن نعمل بصورة عملية، وكيف نستعيد مِلكية السياسة في سورية، وماذا لو لم نكن قادرين على ذلك، ما العمل إزاء الإرادة الدولية التي لا تلتقي مع مشروع السوريين التحرّري، وما أهمية تأميم السياسة السورية، وكيف سيكون أثره المباشر على حالة الاستعصاء القائمة، وغيرها من التساؤلات وموضوعات التفكير التي تصبّ في البعد العملي وماهية الفعل المستقبلي. يحاول هذا النص التفاعل مع هذه التساؤلات، والمشاركة في بلورة إجاباتٍ عنها، ولكن قبل ذلك نبسط ما نرى أنها مقاربة أولية مهمة للفهم والتفكير في المسألة السورية، وهي الخلفية الذهنية التي تقبع خلف مقترح "بيان تأميم سورية"، والغاية من بسطها أن تساعدنا في الإجابة عن هذه التساؤلات. ولإنجاز هذا البسط، ندعو إلى التفكير في المسألة، بدايةً من وضع السؤال الأولي: ما هو السبب الرئيس الذي جعل إسقاط النظام السوري هدفًا أساسيًا دفع السوريون دونه حيواتهم ومالهم وبنيهم؟ قد تكون فكرة الحرية بالصورة الواسعة المجرّدة إجابةً. ولكن لنفكر معًا في إمكانية تقديم إجابة أكثر دقةً وعمقًا ومباشرةً، كأن نقول إن المسألة برمتها تحيل على "الدفاع عن النفس"؛ فالإنسان العادي لا يقدِّم أغلى ما عنده، ولا ينهي حياته البيولوجية، إلا من أجل الدفاع عن نفسه، وعمَّن يحب: أي ليَصُدَّ اعتداءً عليه، أو على الذين يُحبهم، لا ليبادر بالتعدّي على أحد. وهكذا يمكن أن نقول إن السوري العادي أراد إسقاط النظام لأنه يعرف أن النظام قد اعتدى عليه، وعلى أحبّته: على حياتهم وكرامتهم وممتلكاتهم إنسانيتهم وعلى نتاج شقاء أعمارهم، وإلى ما هنالك. وأيضًا لأن السوري يعرف أن استمرار وجود هذا النظام يعني استمرار هذا العداء. ويدرك كلُ سوري، حتى الموالون للنظام، أن النظام استباح سورية، وسرقها، وادّعى ملكيتها، وحوَّلها بمن فيها إلى ملكٌ له: صار مالها، وأرضها، وأبناؤها، وأطفالها، وكل شيء فيها، ملكًا للعائلة: يعني إنه "خصخصها"، يعني جعل من العمومي الذي يمتلكه الشعب (مالك الوطن) ملكًا خاصًا له، وأعطاها نِسبةً؛ فصار البلد يُسمّى "سورية الأسد". وقبل العام 2011 لم يكن السوري صامتًا، كان دائمًا يدافع عن نفسه، ولكن دفاعه كان فرديًا، بمعنى أن المدافع كان يخوض معركته بعيدًا عن المجتمع، وغالبًا ما يُترك وحيدًا، ويواجه آثار هذا الدفاع عن النفس وتبعاته منفردًا.

السوري العادي في لحظة تأسيس مشروعه المعاصر قد أصرّ على إسقاط النظام، وكان بهذا الإصرار يدافع عن نفسه فحسب

بعد هذا المدخل، يمكن توصيفُ الذي حصل في 2011 بصورةٍ أكثر دقة؛ فنقول إنه قرارٌ سوري مُشترك بالدفاع عن النفس ضد هذه الطغمة المجرمة، اتخذه السوريون أول مرة مجتمعين، واتخذوه بموجب استقواءٍ بتعاونهم بوصفهم جماعة وطنية. وفي ذلك ثمّة توصيفان جديدان: الأول "التعاون"، ويستخدمه السوريون أول مرة بوصفه منهجيةَ دفاعٍ عن النفس ضد النظام (بعد أن كان الدفاع فرديًا)، وهو توصيفُ مهم يحيل على التضامن والتماسك الوطني (الشعب السوري واحد). والثاني له قدر الأهمية نفسه، وهو "الاستقواء" بالجماعة السورية الوطنية والتنسيق الدائم لتوسيعها وتقوية التواصل بينها. وهذا التعاون، زائدا الاستقواء بجماعة وطنية تتواصل علانيةً، هو تعريف العمومي السوري الأولي، وهو نقيض مشروع خصخصة سورية ونسبها لعائلة الأسد، يعني لم يعد هناك "سورية الأسد"، بل تأمّمت سورية على أيدي الثوار المتعاونين، وعادت سورية مفهومًا عموميًا مثل أوطان العالم كلها، وصرنا نقول: "سورية لينا وما هي لبيت الأسد".

الفكرة المهمة جدًا في هذه العملية أن لها أدوات تفكيرٍ جديدة؛ فهي تقوم على التواصل، وتجسير العلاقات بين البشر، وتعزيز التعدّدية، والاحتفاء بالحياة وبمركزية الإنسان السوري بغض النظر عن محمولاته وانتماءاته؛ وكأن الثورة أنشأت مكبَّ نفاياتٍ للمفاهيم وأدوات العمل السياسي منتهية الصلاحية، ورمت فيه كل المفهومات والأدوات القديمة التي تنتمي إلى ما قبل 2011، ومنها مفهوم الأيديولوجيا، ومفهوم البطل، ومفهوم الرسائل الخالدة، ومفهوم الرمز الخالد، ومفهوم الباطنية والتقية السياسية، والأممية البروليتارية، والراديكاليات الإسلامية، وتسييس الدين والاستقواء بهذا التسييس، إلى آخر هذه القائمة الطويلة من المفهومات منتهية الصلاحية. ولكن سخرية القدر، بكل ما تعني كلمة سخرية من معنى، كانت أن المعارضة السياسية التي أوكلت الثورة إليها ميدان السياسة، قد أخذت مفهوماتها، وأدوات عملها السياسي كلها، من مكبّ النفايات هذا تحديدًا؛ فكانت كل أدواتها السياسية منتهية الصلاحية، ولا تنتمي إلى عصر العمومي الذي صنعته الثورة بفنٍ وإتقانٍ منقطع النظير. وهكذا أدخلتنا المعارضة في مشروع خصخصة جديدٍ، في حين تأملنا استعادة بلدنا بوصفنا شعبا، واكتشفنا أنها لم تفعل شيئًا إلا إعادة تدوير نفاياتنا الفكرية منتهية الصلاحية؛ فمارس كثيرون من أفرادها الشأن العام وسيلةً لتحقيق المكاسب الخاصة كما كانت الأمور تمشي قبل 2011، وأيضًا ازدهرت حرفة صناعة الوهم، وخداع الذات، والباطنية والتقية و"الحربقة" السخيفة، والأدلجة، وتسييس الدين، وتديين السياسة، وما إلى هنالك من تبعاتِ النبش في مزبلة المفهومات وأدوات السياسة. ولهذا كله، نجد أنفسنا اليوم في حاجةٍ ماسّةٍ إلى العودة إلى روح اللحظة التأسيسية الأولى لتأسيس الحل النهائي للمسألة السورية، وهي لحظة تأميم سورية بـ "التعاون والاستقواء بالجماعة السورية الوطنية". وهذا هو جوهر طرح بيان تأميم سورية. من لا يعي تاريخه يجد نفسه مجبرًا على تكرار ماضيه، حسب هيغل، ثم يصير هذا التكرار روتينيًا وصولًا إلى النقطة التي لا يمكن عندها تمييز الماضي من الحاضر من المستقبل، كما لا يمكن تمييز المعارضة من النظام (باستثناء التمييز الأخلاقي؛ فلا شيء مثل انحطاط النظام أخلاقيًا).

الطرح العملي الآن ابتكار جماعة سياسية تكون بمنزلة هيئة تحرير وطنية واسعة، وتنبثق من تعاون السوري العادي على مبادئ عمومية ناظمة

الآن، بعد هذا المدخل، نحاول الإجابة عن التساؤلات عن ماهية الفعل القادم، ونقول إن السوري العادي في لحظة تأسيس مشروعه المعاصر قد أصرّ على إسقاط النظام، وكان بهذا الإصرار يدافع عن نفسه فحسب، مجرّدًا من كل سلاحٍ إلا ذاته، ولكن ذاته المنفتحة على العمومي، والمُعرَّفة سياسيًا بدلالة مشروع السوريين العاديين الوطني القائم على التعاون والاستقواء بالجماعة التواصلية التي تتواصل وتنسّق عملها بحرفية وفن. ومن هنا، تبدأ السياسة من جديد، من إنجاز تعاونٍ جديد عابر لمفهوم النخبة، يلتمّ فيه السوريون العاديون من جديد، ويتفقون بموجبه على التعاون، والاستقواء بهذا التعاون لصناعة القرار ولفرضه. ويأتي بيان تأميم سورية في هذا السياق، وهو مقترح للتعاون من جديد، لا يدّعي امتلاك حقيقة، بل يدعو، بموجب جوهره، إلى تصويبه، وإلى التواصل في مضامينه، وصولًا إلى بلورة اتفاقات التعاون الكبرى بصورتها الوطنية واستعادة السياسة والقرار: أي تأميم السياسة والاستقواء بالتعاون. والعمومي كلمةٌ من أجمل الكلمات، ومفهومٌ من أجمل المفهومات في هذا الزمان السوري الجديد؛ ذلك لأنها المدخل لإعادة المفهومات والأدوات السياسية منتهية الصلاحية إلى مكبّ النفايات، بوصفها أدواتٍ ومفهوماتٍ لا تلائم روح الثورة، ولا تصلح لتحقيق تطلعات السوري العادي، بل تعيق تقدّمه وتدفعه خارج الزمان والعصر. والطرح العملي الآن هو ابتكار جماعة سياسية تكون بمنزلة هيئة تحرير وطنية واسعة، وتنبثق من تعاون السوري العادي على مبادئ عمومية ناظمة، أولية ومبدئية، مكتوبة في بيان تاريخي، هو بيان تأميم سورية. وتعمل هذه الهيئة باستخدام الأدوات العصرية، وتفرض قراراتها السياسية باسم السوريين، وتستمد قوتها منهم لفرض خياراتهم، وتدير تداخلات مصالح الدول، وتحقق الانتقال السياسي واستعادة الوطن. هذا هو المنطلق العام للطرح، وتأتي التفاصيل جميعها من روح هذا الاتفاق الوطني.

B4769262-978B-41E7-8365-77B95D66AED6
مضر رياض الدبس
باحث وسياسي سوري، الرئيس السابق لحزب الجمهورية السوري، له دراسات وأبحاث منشورة، ومن كتبه: مفهوم المواطنة أو صورة السيتزنية في المستقر الإيماني، وفي ضوء الألم، تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري، وعقل الجهالة وجهل العقلاء