مونديال قطر... الرياضة والسياسة

مونديال قطر... الرياضة والسياسة

29 نوفمبر 2022
+ الخط -

كرة القدم إحدى أهم الرياضات الشعبية في العالم، وهذا ما عبّر عنه الروائي الفرنسي، ألبير كامو، بقوله "لا يوجد مكان في العالم يكون فيه الإنسان أكثر سعادة من ملعب كرة قدم". وقال الكاتب الأوروغوايانيً، إدواردو غاليانو، عنها إنها مرآة للعالم تقدم ألف حكاية وحكاية، فيها المجد والاستغلال، والحب، والبؤس، وفيها يتبدّى الصراع بين الحرية والخوف. 
وكأس العالم هو المناسبة الأشهر والأهم التي يتابعها ملايين من محبّيها وعشاقها. وبالنسبة لأجيال مختلفة، كان كأس العالم إحدى الفعاليات التي تستحقّ المشاهدة حتى في أيام الامتحانات المدرسية والجامعية المصيرية والمؤثرة على المستقبل، وظلت رؤية نجوم، مثل سقراط ومارادونا وبيليه وزيكو وبلاتيني وزين الدين زيدان ومحمد صلاح وكريستيانو رونالدو وميسّي وغيرهم، دافعا للسعادة والمتعة في أحيان كثيرة. وطالما حلم صغار كثيرون بأن يصبحوا مثل هؤلاء ويكتسبوا الشهرة والمال، وأصبح التعصّب لنجوم معينين واضحا بين هذه الأجيال الجديدة يرتدون ملابسهم الرياضية ويدافعون عنهم في كل مجال. 
كما تحوّل قميص المنتخب الوطني إلى أهم رمز للهوية الجماعية للشعوب، وتدريجيا حلت النقاشات الكروية محلّ نظيرتها السياسية، وبديلا عن التعصّب الديني والمذهبي، وأحيانا كثيرة يتم استخدام البعد السياسي في النقاشات الرياضية، محليا أو دوليا، بالإشارة إلى تبنّي أجهزة الدولة انحيازا لنادٍ معين من دون غيره. 
كما خلطت بلدان بين السياسة والرياضة، كما فعل موسوليني وهتلر في نسختي كأس إيطاليا 1934، وأولمبياد برلين 1936 بالتأكيد على "التفوقين" الإيطالي والألماني، باستخدام الرياضة لتثبيت أركان السلطة، والتي تخلو من إنجازات سياسية مستحقّة، واستغلال شعبية اللعبة، رغم إخفاقها في ملفات سياسية واقتصادية عديدة، كما يحدث يوميا في بلدان عربية كثيرة. بل ويسعى بعض المسؤولين إلى الجمع بين المناصب السياسية والرياضية، وكثيرا ما يتم استقبال رؤساء الدول للمنتخبات الكروية، والتقاط الصور مع هؤلاء اللاعبين، ويتم التعامل معهم ضمن فئة VIP ويختار بعضهم بالتعيين في البرلمانات، وقد يأتي ذلك مطابقا لقول أحدهم "كرة القدم مناسبة لكي لا يفكر الناس بأشياء أخرى خطيرة".

كثيرا ما يعبّر الجمهور عن آرائه السياسية وقضاياه العادلة في فعاليات رياضية كثيرة، خصوصا في التضامن مع القضية الفلسطينية

وتتبنّى دول مفهوما يميل إلى تسييس الرياضة في العلاقات الدولية، بالرغم من كل المطالب بالفصل بين الرياضة والسياسة، بل وأحيانا يُعاقب لاعبون لاتخاذهم مواقف سياسية في بعض المباريات، وكثيرا ما يعبّر الجمهور عن آرائه السياسية وقضاياه العادلة في فعاليات رياضية كثيرة، خصوصا في التضامن مع القضية الفلسطينية. وقد استخدمت الدول الكبرى هذا الأسلوب كثيرا إبان الحرب الباردة بمقاطعة أولمبياد موسكو عام 1980. وفي المقابل، قاطعت دول الكتلة الشرقية أولمبياد لوس أنجليس عام 1984. وفي جانب آخر، قرّبت الرياضة وكرة القدم بين بعض الدول، وهو ما حدث بين الصين والولايات المتحدة، في حين أنها كادت تطيح العلاقات الشعبية، كما حدث بين مصر والجزائر في 2010.
ويعد تنظيم كأس العالم في قطر سابقة مهمة وإيجابية، لانعقاده في دولة عربية وإسلامية امتلكت أدوات التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي في منطقتها، كما في كثير من البلدان، بعد أن حظيت أفريقيا وآسيا بتنظيم نسختي 2002 و2010، وهو تطبيق المبدأ نفسه، القاضي بضرورة التنوّع والتدوير في تنظيم كأس العالم والفعاليات والقمم الدولية المختلفة، وأخيرا جاء الدور على العالم العربي لتنظيم هذا الكأس المهم الذي يحظى بمتابعة دولية. 
ونجحت قطر في اجتياز هذا الاختبار بجدارة في مجال التنظيم واستضافة مئات الآلاف من المشجّعين ومواطني الدول المشاركة في كأس العالم، وسهلت لهم سبل الراحة والانتقال والإقامة، ونجحت في إقامة ملاعب رياضية حديثة تسع عشرات الآلاف من الجمهور، ويعكس بناؤها، في الوقت نفسه، هوية أصيلةً في التسمية والطراز المعماري العربي. وتجاوزت قطر المشكلات الخلافية التي حاول بعضهم وضعها في الطريق، سواء بالتهديد بنقل المناسبة إلى بلد آخر، أو الإشارة إلى المناخ الحارّ هناك، أو الحديث عن معاناة عمّال شاركوا في بناء هذه الملاعب.

رغم تأكيد كثيرين على عدم تسييس الرياضة، إلا أن ماكينة الإعلام والسياسة أحيانا لا تؤدّي إلى الاتجاه نفسه

ورغم تأكيد كثيرين على عدم تسييس الرياضة، إلا أن ماكينة الإعلام والسياسة أحيانا لا تؤدّي إلى الاتجاه نفسه، وهو ما ظهر في الانتقادات التي وجهها بعضهم إلى تنظيم هذه المناسبة في قطر، وبالتزامن مع ذلك، جاءت كلمة رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، جياني إنفانتينو، في اتهام أوروبا بالازدواجية في طرح بعض هذه الانتقادات محاولة لتخفيف حدّة هذا التوتر، ويعتبر شهادة لدولة قطر، وحرصا منه على إنجاح المناسبة التي دعت الدوحة رؤساء دول عربية وأجنبية إلى حضور افتتاحها الذي كان لافتا، ولاقى إعجاب الملايين. بل وسعت إلى استخدام علاقاتها لحل الخلاف السياسي بين كل من مصر وتركيا في الافتتاح، بمصافحة أولى بين كل من الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والمصري عبد الفتاح السيسي.
بالتأكيد، هناك مكاسب ستعود على دولة قطر من تنظيم هذا المونديال، أهمها: التأكيد على نجاح قطر في تنظيم هذه المناسبة في الجوانب اللوجستية، كما اتصفت بحسن التنظيم والاستضافة، والتأكيد على الدور القطري في هذه المناسبات العالمية.  تقديم واجهة مشرفة للتنظيم العربي في المجال الرياضي، والتأكيد على التنوع في تنظيم هذه المناسبات الدولية. حق دول العالم الثالث في الوجود بقوة في كأس العالم والمؤسسات السياسية (مجلس الأمن مثلا)، وزيادة حصة البلدان العربية والأفريقية والآسيوية في هذا المحفل. إبراز الدور المهم للسياسة القطرية الداعية إلى حل المنازعات الدولية عن طريق التوفيق والوساطة، ومحاولة إبراز القيم الرياضية، كالتسامح وعدم التعصّب، واستخدامها في المجال السياسي. توجيه الأهمية لحل مشكلة التعصب الرياضي، سواء بين الشعوب أو بين البلدان المختلفة، وتقبل الأمر بروح رياضية في الهزيمة كما النصر، فكلاهما واردان، من خلال بذل المؤسّسات الرياضية الكبيرة، مثل "فيفا" والاتحادات الإقليمية أدوارا مضاعفة في هذا الإطار. الحرص على أن تبقى الكرة جالبة للمتعة، ووقف الاستغلالين، التجاري والسياسي، لها. العمل على الفصل النسبي بين السياسة والرياضة، وتطبيق هذا المبدأ على كل الأطراف، سواء أكان لاعبين أو مؤسسات رياضية دولية أو الدول في حد ذاتها، وهذا لا يمنع من تعبير الشعوب عن التضامن مع القضايا العادلة التي يجمع عليها الرأي العام المحلي أو الدولي.