مسألة الهوية.. تقاطعات أمازيغية وعروبية

مسألة الهوية.. تقاطعات أمازيغية وعروبية

21 ديسمبر 2014

احتفال أمازيغي أمام البرلمان المغربي في الرباط (12يناير/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
الإنسان حبيس ثقافته. على الرغم من اختلاف منطلقاتهم، يلتقي دعاة الأمازيغية ودعاة العروبة (القوميون)، من حيث بعض التصورات، أو مقاربتهم بعض المسائل، ما يدل على تأثرهم بالبيئة نفسها، وطريقة التفكير نفسها. ونكتفي هنا بعنصرين أساسيين لمناقشة هذه القضية: إعادة بناء الفضاء الإقليمي والرواية الهوياتية والتاريخية.

يرى النشطاء الأمازيغ في المنطقة المغاربية أن تعبير المغرب العربي يطمس الهوية الأمازيغية، ويحدد أهل المغرب بالعلاقة بأهل المشرق، وبالتالي، ربط الأول بالثاني. ويفضلون استخدام تعبير شمال إفريقيا التي هي بلاد ثامزغا الشاسعة التي تشمل أقطارهم. وهنا نقطة التقاطع مع العروبيين، لكن لأغراض مختلفة. فعلى عكس العروبيين الذين يقولون بالوطن العربي، يقول النشطاء الأمازيغ بالوطن الأمازيغي. وحتى، وإن كانوا لا يقولون بزوال أقطارهم المعروفة والمعترف بها، فإنهم يفكرون، أيضاً، بمنطق التجزئة على أساس أن الدولة القطرية لما بعد الاستقلال هي تعبير عن تقسيم الفضاء الأمازيغي. وتمتد ثامزغا (بلاد الأمازيغ)، حسب النشطاء الأمازيغ، من واحة سيوه في الصحراء الغربية المصرية شرقاً إلى جزر الكناري الإسبانية غرباً، ومن الشاطئ المتوسطي شمالاً إلى الساحل (الطوارق) جنوباً. وبالتالي فشمال إفريقيا الأمازيغية تُحدد وفق انتشار المجموعات الأمازيغية ما يجعلها تضم جزءاً من مصر، وأجزاء من مالي والنيجر وموريتانيا، فضلا عن ليبيا وتونس والجزائر والمغرب.

هكذا فدعاة الأمازيغية الذين يرفضون أطروحات العروبيين يسيرون على خطاهم، من حيث التصور الجغرافي خدمة لمآربهم الخاصة. فتصورهم الوطن الأمازيغي يشبه التصور العروبي (القومي) للوطن العربي. فبالنسبة لهم، كانت ثامزغا فضاء موحداً جزّأه الوجود العربي، ثم الاستعمار فالدول المستقلة. وبالتالي، فالحدود الحالية مصطنعة. ونجد هنا أطروحة التجزئة، من دون أن ترد في الخطابات الأمازيغية بصريح العبارة. لكن الواقع أن الفضاء الأمازيغي لم يشكل يوماً وحدة واحدة متكاملة، بل كان منقسماً على نفسه، يعيش صراعات سياسية، إلا أن هذا أُقصي من وعي النشطاء وإدراكهم لتقديم رواية تاريخية، يراد تسويقها. إذا يظهر التاريخ أن ثامزغا، ونوميديا تحديداً، لأنها المرجعية التاريخية لهؤلاء، كانت ميداناً للصراعات على السلطة، حيث وقعت حروب داخلها، وبين مختلف أجزائها، مثل الأقاليم العربية التي عرفت، قبل الإسلام وبعده، صراعات بين الإمارات والمماليك... حتى إنه قيل ما سل السيف في الإسلام كما سل من أجل الإمارة. ويمكن تطبيق هذه المقولة على الصراع على السلطة في مملكة نوميديا الذي انتهى بتخلص يوغرطة من منافسيه، قبل أن يخونه أمازيغي آخر ويسلمه لروما. وعليه، فمقابل الأساطير العروبية-الإسلامية (نسبة للإسلاميين) المؤسَّسة للفضاء العربي-الإسلامي يطرح النشطاء الأمازيغ أساطير مؤسَّسة للفضاء الأمازيغي.

أما نقطة التقاطع الثانية، فتخص الرواية، والرواية المضادة، للتاريخ والهوية. إذ يعرف المغرب العربي، وتحديداً الجزائر والمغرب، بالنظر لنشاط الحركات الأمازيغية وتنوعها، تنافساً بين روايات تاريخية متناقضة، لكنها تلتقي في نقطة أساسية: القراءة الانتقائية للتاريخ والهوية. فكل طرف، السلطات بروايتها التاريخية، الرسمية، والحركات الأمازيغية بروايتها التاريخية المضادة، يقرأ التاريخ على هواه. فبالنسبة للسلطات السياسية، حتى عهد قريب، فإن تاريخ البلاد عربي إسلامي أساساً، يبدأ مع مجيء الإسلام، وإن كان ما قبل ذلك لم يقصَ نهائياً إلا إنه هُمش. وتساندها في موقفها هذا تيارات واسعة من معربين وعروبيين وإسلاميين. أما دعاة الأمازيغية فيؤكدون على الماضي الأمازيغي، ويكاد التاريخ عندهم يتوقف عند الفتح الإسلامي، إذ تمر بلدانهم بقرون من الفراغ، حتى العهد الاستعماري. والغريب أنهم كثيراً ما يغضون البصر، حتى عن المماليك الأمازيغية الإسلامية المغاربية.

وهكذا، يقصي كل طرف جزءاً من التاريخ، لا يتطابق ومعاييره في تحديد الهوية. وبما أن جنوح النخب المغاربية الحاكمة (أمازيغية أم عربية) إلى الاكتفاء بالبعد العربي الإسلامي أدى إلى تشدد مطالب الهوية التي يحملها دعاة الأمازيغية، فجاءت تصوراتهم هي الأخرى إقصائية انتقائية. هكذا قابلوا "الغش" التاريخي للسلطة "بغش" تاريخي مضاد عبر قراءة انتقائية، استبعدوا فيها البعد العربي الإسلامي، أو على الأقل همشوه، واحتفظوا بالبعد الأمازيغي وغير العربي (الذي أصبح ملازماً للإسلام، لأن لا عروبة بدون الإسلام في المنطقة المغاربية). وأقصوا قروناً من التاريخ في تنظيرهم للهوية الوطنية، شأنهم شأن النخب الحاكمة.

الواقع أن مجمل هذه القرون المسقطة في جزئها من الوعي التاريخي للنخب الحاكمة، وفي جزئها الآخر من الوعي التاريخي لدعاة الأمازيغية، هو الذي صقل الهوية المغاربية عموماً والهويات الوطنية خصوصاً. ثم إن التاريخ كل لا يتجزأ، ومراحله المتداخلة والمتشابكة هي التي صقلت الهويات الوطنية، بمقوماتها المتعددة، مع العلم أن الهوية ليست معطى جامداً بل عملية تطورية (بطيئة) أيضاً. ويذكرنا هذا الواقع، عموماً، بما قاله الفضل شلق لما أعتبر أن العرب أسقطوا ألف سنة (من انهيار الدولة العربية المركزية إلى عصر النهضة) من وعيهم (الملتبس) لتاريخهم، بينما هذه هي الفترة التي صقلت الهوية، وحددت تركيبة المجتمع العربي.