العرب والآخر مكاناً وزماناً

24 سبتمبر 2014

عمل لـِ"ميوس بريدجمان"

+ الخط -

لا يجوز أن نغضب من الذين يتعلقون بكل ما هو غربي، حدّ المرض، فيساوون بين التقدّم وتقليد الغرب، بل هم يستحقّون أن نشفق عليهم، لأنهم نتيجة طبيعية لانكسار المشروع النهضوي العربي، منذ وصول الاستعمار الأوروبي العسكري إلى بلادنا التي كانت تخطط فعلاً للنهوض، وعدم عودة ذلك المشروع للانطلاق بعد خروج الاستعمار. إنهم الوجه الآخر لأولئك الذين يقدّمون صورةً تاريخية لثقافتنا، فيطرحون الإسلام، تحديداً، باعتباره نموذجاً ماضوياً علينا استعادته، بمن فيهم الذين يتطرفون في طرحهم الماضوي، مثل الحركات التي تكاثرت، أخيراً، ابتداءً بالقاعدة، ووصولاً إلى "داعش".
 
لم تكمن المشكلة، التي تُنتج، اليوم، هذه الحالة المرضيّة، في حمل الاستعمار مشروعاً ثقافياً/ أيديولوجياً إلى جانب مشروعه الاستغلالي، فقط، بل، أيضاً، في أن الرد على الاستعمار أخذ هو الآخر طابعاً أيديولوجياً حاداً. ففي إطار الرد على الاستعمار، تم تجاوز المشروع النهضوي الأصلي الطامح للانطلاق من واقع العرب ومن ثقافتهم، وجرى إحلال مشاريع ذات طابع أيديولوجي صميم، تأخذ موقفاً حدّياً، إما إلى جانب ثقافة الماضي، أو إلى جانب ثقافة الآخر، محله. وفي الحالتين، انطوى الأمر على هجرة خارج اللحظة التاريخية الراهنة، زماناً ومكاناً، أي خارج حالتنا المعاصرة نحن العرب، وظروفنا وواقعنا وقضايانا وأحوالنا، سعياً إلى استقاء الحل، وربما الشرعية، من "آخر" عاش في زمان مضى، أو "آخر" يعيش في مكان مختلف، ومن ثم تطبيق حلول ذلك "الآخر" على حالتنا، وكأن لا اختلاف أو تمايز بيننا وبينه في الظروف والأحوال!

لقد قامت مضامين الأيديولوجيا "الماضوية" على بعدين، هما: رفض التحديث على الطريقة الأوروبية، والمناداة بالعودة إلى ما كان عليه السلف من نظم وأفكار. هذه الأيديولوجيا ظلت حاضرةً في الثقافة العربية المعاصرة، باعتبارها "المشروع الإسلامي للنهضة"، فظلت أساساً للفكر "الإسلامي" الذي ظهر تالياً، وللحركات السياسية "الإسلامية" التي عرفها التاريخ العربي، منذ عشرينيات القرن العشرين، حتى بعد خروج الاستعمار بشكله العسكري المباشر، ذلك أن "الاستعمار" ظل حاضراً بمنطقه الإمبريالي.

أما المشروع المنحاز لتقليد الغرب، فظل "منطقه" الاندهاش بالاكتشافات والاختراعات والنظريات التي أنتجتها أوروبا. وعلى هذا، فهو لم يأخذ شكلاً أو نسقاً أو مضموناً واحداً، بل كان عابراً للأفكار والمشاريع، حتى للمشاريع التي باتت مناهضة للغرب فيما بعد.

هكذا إذن، فإن فكرة "التقليد": تقليد الماضي أو تقليد الغرب، هي التي تسم مشاريعنا وخططنا اليوم، فيما نتناسى أن المشروع النهضوي الواقعي القابل للتطبيق، هو الذي ينطلق من خصوصية حالتنا التاريخية، بزمانها ومكانها، لأنه يفهم مشكلاتها، ويحسن التعاطي مع ظروفها.

ظلت فكرة التقليد فكرة عامة: كلنا يقلّد، وكلّنا يدّعي أن تقليده هو الحل! لا فرق بين يميني ويساري، إسلامي وقومي وماركسي. وعلى هذا، فإن المرضى بالغرب ليسوا إلا "وجهاً آخر" للمرضى بالماضي، فالمشكلة هي الاندهاش بالآخر: لا مشكلة سواها.

لنلاحظ هذه المشكلة، مثلاً، عند الشيوعيين العرب، الذين تعاملوا مع الاتحاد السوفييتي باعتباره النموذج الحي والقدوة الحاضرة أمامهم، على عكس ما فعل شيوعيون آخرون في العالم، تعاطوا مع الأفكار الماركسية، لا مع أحد تطبيقاتها، حتى لو كان تطبيقاً بحجم الاتحاد السوفييتي، فأبدعوا تطبيقهم الخاص لها، كما في الصين مثلاً. لقد اندهش أكثر الشيوعيين العرب بالاتحاد السوفييتي، فاعتبروه مجالاً للتفريق بين ما يجوز وما لا يجوز، في مساعي إنهاض العالم العربي وحل مشكلاته، خصوصاً بعد أن أظهر الاتحاد السوفييتي مناهضته للإمبريالية والاستعمار الأوروبيين، وكان من الدلائل العملية على ذلك أن الاتحاد السوفييتي هو الذي فضح في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1917، أي بعد نحو شهر من قيام الثورة البلشفية، اتفاقية سايكس بيكو السريّة التي وقّعت بمعرفة روسيا القيصرية قبل سقوطها.

أما ما هو أسوأ من الاندهاش بالآخر، فهو الاندهاش بأكثر من آخر، ومن ثم محاولة الجمع بين المتناقضات. من ذلك، مثلاً، محاولة بعضهم الجمع بين "الأصالة والمعاصرة"، بدعوى الاستفادة من الإنجازات الحضارية البشرية، والالتزام بما فهمه السلف. ظلت محاولات الجمع هذه مستحيلة، لأنها أرادت تركيب نظام اجتماعي جديد قوامه الحرية الفردية، على منظومة فكرية قديمة، أساسها الجماعية ومنع استقلالية الفرد، فلم تنجح هي الأخرى، لأنها لا يمكن أن تنجح.
هكذا، ليس ممكناً الخروج من مشكلتنا الحضارية المعاصرة، ما دامت حلولنا تدور حول عقدة الاندهاش بالآخرين!

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.