"نداء تونس" من "بشارة الولادة" إلى الخلافات

"نداء تونس" من "بشارة الولادة" إلى الخلافات

09 ابريل 2015

من بهجة ما بعد الفوز في انتخابات الرئاسة (Getty)

+ الخط -
انشغال الفاعلين السياسيين والرأي العام ووسائل الإعلام في تونس بما يجري في "نداء تونس"، منذ فوزه في الانتخابات في شهري أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول الماضيين، هو اهتمام بشأن حزب حاكم، يتولى مقاليد السلطة ومصائر الأمور في تونس. فالأمر لا يتعلق بمشاغل حزبية صرفة، لا تعني إلا منخرطي ذلك الحزب وأنصاره ومواليه، وإنما تشكل مركز اهتمام لدى كل المهتمين بقضايا الدولة والحكم والحكومة، ومستقبل العملية السياسية وتوازناتها والمسار الديمقراطي التونسي برمته.
للذكرى والاعتبار، ليس "نداء تونس" حزباً كبقية الأحزاب التونسية، أو حتى الأجنبية، قضى ردحا من الزمن في أحشاء أمته، تمهيدا لولادته ونشأته، والإعلان عن تسميته وخوض أوجاع ومخاض ميلاده، وصعوبات الطفولة والبلوغ، ثم المراهقة فالتمرد، ثم النضج والمعارضة، فالتضحية والمقاومة، وبعد ذلك السلطة والمشاركة. هو حزب صاحب خوارق ومقامات، فقد كان ينطق في المهد ويحيي الموتى. ولذلك، ولد فائزاً في أول انتخابات يشارك فيها، معتلياً بذلك كرسي الحكم وهرم الدولة.
و"نداء تونس" هو الحزب الوحيد الذي سبقت ميلاده علاماتٌ وردت في الكتب والصحائف القديمة، فقد جاء مبشَّرا به قبل ولادته، فمُثّل في المجلس الوطني التأسيسي، من دون أن يترشح أو يشارك في انتخاباته، وقبل حصوله على الرخصة القانونية لوجوده، وفُصّلت بعض الفصول الدستورية والقوانين الأساسية المنظمة للشأن السياسي الوطني على مقاسه، من دون أن يمتلك قاعدة الأغلبية في ذلك المجلس، وكان مفضّلا لدى وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية.
"نداء تونس" هو حزب المال والأعمال وأصحاب الشركات الكبرى بامتياز، فقد انتشرت مقراته في المدن والقرى والأرياف في زمن قياسي. فهو لم يبلغ الثلاث سنوات من عمره، وتمكن من أن يمسح كل ولايات البلاد ومعتمدياتها، ويخترق الجاليات التونسية المنتشرة في أوروبا وأميركا الشمالية والخليج العربي، من دون أدنى جهد مطلوب. وهو الأكثر ثراء من بين جميع الأحزاب، بما في ذلك حركة النهضة، المشار إلى حساباتها المالية الدافقة.
وعلامات الرخاء هذه تبرز في نوعية مقرات الحزب، المسوّغة في الأحياء الراقية في المدن الكبرى، وفي المباني الفخمة. وكذلك في الواجهات الإعلانية للحزب، وفي رمزه النخلة التي ارتسمت على العمارات الشاهقة، فتحولت من علامة للصحراء الجافة والقاحلة إلى رمز الثراء الفاحش، ومفعوله السياسي القادم من الحواضر، ذات الحظوة التاريخية لدى سلاطين السياسة التونسية، في اتجاه الأرياف والبوادي والقرى الفقيرة والمنسية.
 
عند ولادة "نداء تونس" سنة 2012، تكيّف الواقع السياسي التونسي، بأكمله، ليكون حاضنا له، لكي لا يموت في المهد، أو يصاب بعاهات مزمنة، فاحتضنته المعارضات "الحداثية" في الائتلاف السياسي المعروف بالاتحاد من أجل تونس الذي ضم أحزابًا ليبرالية، وأخرى ديمقراطية اجتماعية، وثالثة اشتراكية وفق تعريفها نفسها. ووفرت له أحزاب راديكالية، معروفة بانتمائها اليساري الماركسي، أو القومي العربي والبعثي، مجتمعة في الجبهة الشعبية، مقومات الوجود والاستمرارية، وشرعنته ضمن الائتلاف السياسي المكنى بجبهة الإنقاذ التي انبعثت في شكل حظوة إلهية في اللحظة التاريخية المناسبة والعصية، فشكلت احتفاء سياسيا متميزاً بحزب النداء الوليد.
انتصر "نداء تونس" في كل من الانتخابات التشريعية والرئاسية، وفاز برئاسة مجلس نواب الشعب، وشكّل الحكومة التونسية الجديدة. ولكن، في مقابل ذلك، انهزمت كل المعارضات التي احتضنته، ووفرت له أسباب الحياة والوجود، ومنها ما ألقي به في مقابر السياسة، بعد أن فشل في الفوز بمقعد واحد في مجلس نواب الشعب. ولم تتأخر حركة النهضة، الحزب الغريم، في إقناع قواعدها والرأي العام ككل، بجدوى حزب النداء في التوازن السياسي، فانقلب موقف رئيسها تجاهه، من وصفه بأنه يتجاوز في خطورته المجموعات السلفية إلى اعتباره منقذا للبلاد، ومن ثمة التحالف معه، وبناء ائتلاف حكومي في الغرض، ما كذّب كل الاحتراب السياسي الذي دار بين الطرفين، منذ ولادة الحزب الحاكم الجديد، وسفّه مصداقيتهما.
يوحي ما سبق بأن حزب نداء تونس أسطوري، فقد حقق لنفسه، في زمن وجيز جدّا، ما عجزت عنه أحزاب أخرى، بعد أن أعدت لذلك عشرات السنين. تلك هي الصورة التي رُوّجت حول النداء، وهو في حالة انتشاء سياسي نادر، لحظة النصر واستلام مفاتيح قصور الحكم في باردو وقرطاج والقصبة. لكن، سرعان ما انهارت تلك الصورة على وقع ممارسة السلطة، وتوزيع غنيمة الحقائب والوظائف العليا في الدولة، لينتهي الأمر إلى أزمة حادة، تجاوز صداها مقرات الحزب، وزواياه المظلمة، إلى وسائل الإعلام وأضوائها الكاشفة، قبل أن يدبّ الأمر إلى مماشي النيابة العمومية، ومكاتبها، وقاعات العدالة التونسية.
ووفق النظرية السياسية الخلدونية، لم تعمر العصبية الحزبية لـ"نداء تونس" في هرم الدولة إلا أياماً معدودة، من طورها الأول الذي يتميّز عادة باللّحمة وقوّة النسب السياسي الجديد، وبالظفر بالبُغية والمدافعة والممانعة، واقتسام المُلك والغُنم، لتصاب بأمراض كثيراً ما تصيب الدول وعصبياتها السياسية الحاكمة، في طورها الخامس والأخير، بعد عشرات السنين، المتميز بالإسراف والتبذير والشهوات، وبروز أخدان السوء وخضراء الدمن، الذي كثيراً ما ينتهي بانحلال الحكم، نتيجة لتحلل العصبية الحاكمة.
أخذ الصراع الدائر في "نداء تونس" منحى تصاعدياً بالغاً مرحلة متقدمة، حسب وصف خبراء السياسة ورجال الإعلام، وحسب بعض مراكز القوة الداخلية لحزب النداء نفسه. فالصراع على الغنيمة السياسية بلغ أوجه، ومعركة المناصب ومغانم الوزارات وكتابات الدولة، والسفارات والقنصليات والإدارات العامة ورئاسة المنشآت العمومية، تجلت أُمّاً لجميع المعارك الأخرى وعللها.
وأُضيف إلى معضلات "النداء" مشكل الوراثة السياسية التي شقّت قياداته إلى أكثر من طرف، وعمّقت النزاعات في داخله، ومن حول نجل زعيم الحزب الذي بات يقود شقا بأكمله، من أجل أن يحظى بالريع السياسي والمادي الكبير الذي تركه والده، بعد أن بلغ مبتغاه في رئاسة الدولة.
كما استحالت فكرة تعدد المنابت والمنابع والمشارب الفكرية والسياسية والنقابية لحزب نداء تونس، إلى عامل هشاشة وتوتر وصراع، بعد أن كانت تمثّل مصدر قوة وفخر واعتزاز. فقد بينت التجربة الحديثة العهد، أن النسب السياسي الحداثي المشترك لروافد النداء اليسارية والدستورية والنقابية، هي أقرب إلى وهم النسب الواحد منه إلى الحقيقة. لذلك، طفت على السطح صراعات المواقع والمغانم، على حساب النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام، أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، كما يقول العلّامة ابن خلدون. فالنسب الحداثي الواحد ظهر على صورته الأصلية، أنساباً وروابط أيديولوجية ومصالح ورهانات متعددة، واقتتالاً وبأسا شديدا.
ولقد حلّت الخلافات والنزاعات محلّ الوعود الانتخابية الطوباوية لحزب النداء التي ذهبت أدراج الرياح، بعد تمكّنه من السلطة مباشرة. وساعدت الصراعات التي يشهدها الحزب الحاكم التونسيين، على الاستفاقة على وقع الخديعة التي أوقعوا أنفسهم فيها. أما الندائيون فيبدو أن خوارقهم وكرامتهم في إحياء الموتى، كما أحيوا من قبل حزب التجمع الدستوري القديم باسم جديد، ما مكنهم من الفوز وإزاحة الترويكا، لم تساعدهم هذه المرّة. ولم تهدأ أزمتهم إلا على وقع لعلعة الرصاص الذي أودى بحياة اثنتين وعشرين نفساً بشرية بريئة، في واقعة باردو الإرهابية، وهم الذين وعدوا التونسيين بالقضاء على الإرهاب، بمجرد اعتلائهم عرش السلطة.