"طلعت ريحتكم".. والمندسّون

"طلعت ريحتكم".. والمندسّون

26 اغسطس 2015
+ الخط -
يعاني لبنان من أزمة سياسية حادة، حالت إلى اليوم دون انتخاب رئيس للجمهورية، على الرغم من مرور أكثر من عام وثلاثة أشهر على الفراغ في سدة الرئاسة الأولى، وفرضت حالة من الشلل على المستوى الحكومي، فتحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة تصريف الأعمال، بالنظر إلى الخلاف على تفسير بعض المواد الدستورية الناظمة للحياة السياسية في ظل الشغور الرئاسي. وأقفلت أبواب المجلس النيابي أمام النواب، فحالت دون انتخاب رئيس من ناحية، ومنعت التشريع والرقابة من ناحية أخرى، وقد خلّف هذا الواقع المتأزم، على المستوى السياسي، أزمات حياتية ومعيشية كثيرة، في ظل وضع اقتصادي واجتماعي متردٍّ وصعب، ما جعل الوضع يبلغ مبلغاً متقدماً من الاحتقان والصعوبة، خصوصاً في الأسابيع الأخيرة، حيث انتشرت النفايات في شوارع العاصمة ومدن الضواحي، من دون أن تتمكن الحكومة من إيجاد الحل المثالي، أو غير المثالي لها، وتزامنت مع أزمة حادة في انقطاع التيار الكهربائي، في ظل ارتفاع درجات الحرارة. وترافق ذلك مع أزمة أقل حدة في انقطاع المياه عن مدن كثيرة، وهو ما ولّد غضباً كبيراً دفع بعض الشباب المنتمين إلى منظمات المجتمع المدني والأهلي إلى التحرك خارج إطار الاصطفافات السياسية والطائفية، والمطالبة بحلول جذرية لهذه الأزمات الحياتية، واتخذت شعاراً لتحركها، عنوانه يتصل بالنفايات، فاختارت "طلعت ريحتكم" شعاراً لحملتها، ودعت القطاعات الشعبية لمشاركتها تحركها في الشارع، ما جعلها تصطدم بالقوى الأمنية، بعد تحوّل المطلب من شعار مطلبي إلى شعار سياسي، عنوانه إسقاط الحكومة.
لا يختلف لبنانيان على أحقية المطالب التي رفعتها حملة "طلعت ريحتكم"، بما في ذلك القوى السياسية المشاركة في الحكومة، خصوصاً المطالب المتصلة بأزمة النفايات والكهرباء، لكن الشعار شيء والتحرك على الأرض شيء آخر، وقد أدرك الجميع في لبنان، بعد الصدامات التي حصلت بين المتظاهرين الذين لبوا نداء حملة "طلعت ريحتكم" والقوى الأمنية أن هناك من استغل هذا التحرك المطلبي، لاستثماره في السياسة لحسابه الخاص، وهم من أطلق عليهم اسم "المندسّون"، أي الذين اندسوا في صفوف المتظاهرين لاستغلال التحرك أو لإفشاله، خصوصاً وأن أحزاباً في قوى "8 آذار" باتت تعمل، بوضوح، لتعديل النظام السياسي اللبناني أو تغييره، وهو ما طرحه حزب الله منذ قرابة ثلاث سنوات، عندما دعا أمينه العام إلى مؤتمر تأسيسي، يعيد إنتاج النظام اللبناني، وخصوصاً أيضاً أن حالة الشلل الحكومي والفراغ الرئاسي والتعطيل التشريعي تصب في الاتجاه نفسه، لتعطيل الدولة من أجل الوصول بها إلى حالة الانهيار التام، أو الدخول في حوار يغيّر النظام، أو يعدّله بما يتوافق مع حجم القوة التي يتمتع بها المنادون بهذا الحوار. إلا أن الخطر في هذه المقاربة أنها قد تأخذ لبنان في لحظة إلى المجهول، وقد تنزلق به إلى أتون الفتنة والحرب الأهلية.
سرت، في أثناء أحداث الشغب التي شهدتها شوارع بيروت بعد اعتصام حملة "طلعت ريحتكم" في ساحة رياض الصلح، شائعات عن محاولة لاحتلال السراي الحكومي، وعن انقلاب ينفذه حزب الله بأدوات أخرى، وعن مواقف حادة من شخصيات سياسية، وقد ولّد ذلك ردة فعل أخرى، دفعت شباناً إلى قطع طرقات في العاصمة، والطريق الساحلي الذي يربط بيروت بالجنوب، والطريق الآخر الذي يربط بيروت بالبقاع، وفي مناطق في طرابلس والشمال، دعماً للحكومة، بل لرئيسها، ورفضاً لإسقاطها وإسقاط النظام السياسي معها، وكادت هذه التحركات أن تأخذ بعداً طائفياً مذهبياً، بحيث كان يمكن أن تنزلق بالبلد إلى الحرب الأهلية، بحيث إن لبنان يتحوّل معها إلى ساحة صراع دموي.
"طلعت ريحتكم" شعار لخّص معاناة اللبنانيين، وعبّر عن مشاعر الغضب التي يختزنونها ضد حالة الفساد والترهل والاستئثار على مستوى السلطة السياسية، لكن "المندسّين"، أصحاب العقول الاستغلالية الضيقة، تمكّنوا من ضرب هذا الحراك، لحماية الفساد والاستئثار، وإثبات أن هذا النظام عصي على الإصلاح، وإن كان منطق الواقع يقول استحالة تعديله، أو تغييره، في الوقت الراهن.