تعليق انتخابات مجالس الهيئات المحلية الفلسطينية... التداعيات والأجواء

تعليق انتخابات مجالس الهيئات المحلية الفلسطينية... التداعيات والأجواء

22 نوفمبر 2016

من انتخابات مجلس قروي قرب نابلس (20/10/ 2012/Getty)

+ الخط -
لم يتوقف الجدل بخصوص انتخابات مجالس الهيئات المحلية الفلسطينية عند المادة الأولى من قرار مجلس الوزراء الفلسطيني، الصادر في جلسة 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، والذي قرّرت فيه الحكومة تأجيل الانتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة أربعة أشهر إلى حين توفير بيئةٍ قانونيةٍ ملائمة لضمان إجرائها في المجالس المحلية كافة في يوم واحد. فقد كشفت المادة الثانية في القرار عن إشكالية جوهرية أخرى، حيث نصّ القرار على توكيل وزير الحكم المحلي، وبتنسيب إلى مجلس الوزراء، حل مجالس الهيئات المحلية التي تنتهي دورتها في 8 أكتوبر 2016، وتعيين لجان محلية إلى حين إجراء الانتخابات.
وقد ساهم تأجيل انتخابات مجالس الهيئات المحلية الفلسطينية في تكريس حالة عدم الانتظام في إجراء انتخابات مجالس الهيئات المحلية، والعمل بقانون الهيئات المحلية رقم (1) لسنة 1997، حيثُ لم تُعقد انتخابات لمجالس الهيئات المحلية منذ مجيء السلطة إلا مرتين، الأولى: في العام 2004، وعلى عدة مراحل، وقد تم، في حينه، استثناء بعض مجالس الهيئات المحلية المهمة. والثانية في العام 2012، حيث عُقدت الانتخابات في الضفة الغربية من دون قطاع غزة، وتمت الاستعاضة عن الانتخابات في هذه الفترة الممتدة بسياسة التعيينات.
وكان من المُقرّر أن تُعقد انتخابات مجالس الهيئات المحلية في 8 أكتوبر 2016، وأن تتم عملية الاقتراع في 416 مجلسا محليا، 25 منها في قطاع غزة، من أجل اختيار مجالس محلية، تكمن وظيفتها الأساسية في مجالات التخطيط والتنظيم العمراني، وتقديم بعض الخدمات الأساسية، كالمياه والكهرباء والصرف الصحي والنفايات الصلبة والصحة وترخيص الحرف وبعض الأمور الثقافية، كإنشاء مكتبات وتنظيم نشاطات فنية، وجُّل هذه الوظائف كانت تقوم بها المجالس قبل مجيء السلطة الفلسطينية.

وقد سَبَقَت تأجيل انتخابات مجالس الهيئات المحلية تطورات ميدانية عديدة، في شهري أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول، ساهمت في تشابك المشهد السياسي وتعقيده، كان لها أثر حقيقي في تأجيل الانتخابات، فحالة الفلتان الأمني في محافظتي نابلس وجنين كرّست التحول في استخدام سلاح الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، من مقاومةٍ للاحتلال، كما في الانتفاضة الثانية، إلى مرحلة توظيفه لإدارة الفلتان الأمني بشكلٍ يخدم صراعات القوة بين شخصيات اعتبارية وعائلات فلسطينية.
وقد أعادت مظاهر الفلتان الأمني أخيراً تسليط الضوء على التطورات الميدانية في محافظتي نابلس وجنين، واللتين تشهدان صراعًا سياسيًّا جليًّا بين القيادات السياسية والأمنية في السلطة الفلسطينية وحركة فتح. وشكّل تزايد حدة المواجهات والاشتباكات، في الفترة الأخيرة، تسليطاً للضوء على واقع أمني قابل للانفجار في أي وقت، خصوصًا في ظل عدم وجود إرادة حقيقية، في مواجهة بعض الجماعات، نظرًا إلى عدم سيادة القانون أساساً للسلم الأهلي والمجتمعي، ونظراً إلى ترابط عوامل القوة والمصلحة مع أطراف داخلية وخارجية، وظهور نخب سياسية وأمنية جديدة، لديها مصالحُ سياسية.
ومع مطلع سبتمبر/ أيلول، أثارت القضية القانونية لنقابة المحامين الفلسطينيين بدعوى طلب تأجيل الانتخابات لعدم مشاركة القدس فيها جدلاً سياسياً، أدى إلى صدور قرار عن محكمة العدل العليا الفلسطينية بتعليق إجراء انتخابات مجالس الهيئات المحلية بشكل مؤقت، إلى حين البت بقضية عدم مشاركة أهالي مدينة القدس في الانتخابات، حيث شكّل قرار تعليق الانتخابات سابقةً قانونيةً، فلم يقف القرار عند البت في مشاركة أهالي القدس (ما يقارب 9% من سكان الضفة وغزة) بل امتد ليقف أمام إرادة 68% من الفلسطينيين الذين عبّروا عن معارضتهم قرار محكمة العدل العليا، وذلك في استطلاع كشف عنه معهد العالم العربي للبحوث والتنمية في 25 سبتمبر.
وقد شكل القرار الثاني الصادر عن محكمة العدل العليا في رام الله، في 3 أكتوبر، باستكمال إجراء الانتخابات في الضفة الغربية دون قطاع غزة، مفصلاً مهماً في تكريس قوننة الانقسام، حيث شكل القرار استثناءً لم يتوقف عند سكان القدس، بل أستثناءً لسُكّان قطاع غزة (ما يقارب من 40 - 45%) وقد بُرّر القرار، في حينه، بعدم قانونية المحاكم في قطاع غزة، وانتهت قضية إجراء انتخابات لمجالس الهيئات المحلية بقرار مجلس الوزراء الصادر في 4 أكتوبر، والقاضي بتأجيل انتخابات مجالس الهيئات المحلية، مستثنياً بذلك جميع المواطنين.
وفي وقتٍ أبدى فيه الفلسطينيون والفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة رغبةً جامحةً في إجراء انتخابات مجالس الهيئات المحلية، تكشفت أمامهم إشكالياتٌ أخرى، أبرزها؛ عمق معضلة مشاركة المرأة في الانتخابات المحلية، نظراً لنظام "الكوتا"، وعمق الصراعات القبلية والعشائرية في المحافظات الفلسطينية، وعمق غياب دور حقيقي لمنظمات المجتمع المدني في أثناء فترة الدعوة للانتخابات، وفي تشكيل دور حقيقي لرفض قرار وقف إجراء الانتخابات، هذا بالإضافة إلى أن تراجع ثقافة الانتخابات، نظراً لعدم دوريتها، أدت إلى توافق في 220 هيئة محلية على عدم إجراء انتخابات، نظراً لترشح قائمة واحدة في 182 مجلس محلي، وعدم ترشح أي قائمة في 38 مجلس محلي، أي أن أكثر من نصف الهيئات المحلية كانت ستبقى بدون انتخابات.

وما حالة انتخابات مجالس الهيئات المحلية للعام 2016 إلا تكريس لعدم الانتظام في إجراء الانتخابات منذ مجيء السلطة الفلسطينية، وقد ساهم ذلك في الكشف عن "تكلس النظام السياسي الفلسطيني" من جهة، وإشكالية إزدواجية العلاقة بين السلطة المركزية ومجالس الهيئات المحلية من جهة أُخرى. وقد ساهمت هاتان الحالتان في انكشاف حقيقي لغياب الرقابة والمساءلة والمحاسبة والمشاركة الشعبية، وتهميش دور مجالس الهيئات والبلديات في التنمية المحلية.
ففي ضمان تداول دوري، وعقد انتخابات محلية، مساهمةً وضمانةً جليةً في عملية تنظيم مؤسساتي لمجالس الهيئات المحلية، وتقديم نُخب جديدة، وتحقيق تداولٍ للسلطة، عدا عن أنها ضمانة أساسية للخروج من العباءة العشائرية والقبلية التي تعمقت في خِضَمِ أعمال انتخابات مجالس الهيئات المحلية قبل تأجيلها أخيراً.
وعليه، فإن قضية عدم الانتظام في إجراء الانتخابات المحلية تكشف عن تكريس علاقة "التلازم البنيوي" بين محافظة النظام السياسي على استمرارية مصالحه في داخل بنية النظام وغياب الحوكمة الرشيدة، فقرار مجلس الوزراء الصادر في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، حل ثماني مجالس هيئات محلية (بلدي مدينة طولكرم، وبلدي مدينة جنين، وبلدي مدينة قلقيلية، وقروي ياصيد، وقروي تياسير، وبلدي يطا، ومجلس بلدي إذنا، ومجلس بلدي صوريف) يندرج في تكريس النظام السياسي مركزيته، وأن قرارات التأجيل الدورية جاءت لأسبابٍ سياسيةٍ، تُؤكدُ عدم رغبة السلطة المركزية بأن تقوم مجالس الهيئات المحلية بدورها التنموي، في وقتٍ برّرت الحكومة قرارها بأنه يهدف إلى رفع مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين، وتطوير أداء المجالس المحلية، وزيادة الإيرادات، وتقليل النفقات.
وقد كشف تخبط السياسات الحكومية الفلسطينية، في الفترة الأخيرة، بما يتعلق بالعلاقة بين السلطة المركزية ومجالس الهيئات المحلية عن إشكالياتٍ عديدة، أبرزها عدم الالتزام بمبدأ دورية انتخابات مجالس الهيئات المحلية، وتضخم إشكالية القانون الصادر في العام 2008، والذي يُجيز لمجلس الوزراء حل أي مجلس محلي، إذا تجاوز صلاحياته أو أخل بها، أو بعد انتهاء مدة المجلس البلدي أو القروي، وتعيين أفراد أو لجان من وزارة الحكم المحلي، أو من خارجها.
وتعميق إشكالية تكريس الانقسام الداخلي في ظل أن الانتخابات التي كانت مُقرّة في أكتوبر/ تشرين الأول 2016 كانت تُعد ثاني انتخابات محلية فلسطينية منذ مجيء السلطة، تُعقد في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتدخل السلطة المركزية في عملية الانتخابات، وبروز إشكاليات حقيقية، تتعلق بقانون الهيئات المحلية الفلسطينية، ونظام الانتخابات للهيئات المحلية، وتعديل نظام القوائم واستبداله بنظام الدوائر، حيث أقرّت الحكومة قرارات عديدة بهذا الشأن، من دون جدوى.
وفي حال تم إلغاء الانتخابات بشكل نهائي، حيث يُحسم ذلك بعد ثلاثة أشهر، فلذلك عدة تأثيرات سياسية وسياساتية Politics & Policies)، أبرزها تراجع الخدمات التي تقدمها مجالس الهيئات المحلية للمواطنين، تراجع مستوى الرقابة والمشاركة والمساءلة الشعبية والشفافية، تراجع الحوكمة الرشيدة، استمرار العمل بقانوني الهيئات المحلية وقانون انتخابات مجالس
الهيئات المحلية وبقاؤهما من دون تعديل. ومن جانب آخر، ستتنامى تأثيرات العودة إلى حالة "روابط القرى"، ففي مشروع نتنياهو - ليبرمان "العصا والجزرة" الذي يسعى إلى التعامل مع مجموعةٍ من القيادات المحلية، والتنسيق مع نُخَبٍ تقوم بإدارة الحياة المدنية في الأراضي الفلسطينية، تعمل بمعزل تام عن أي بعد سياسي، وتقوم على الاختيار بين "الأخيار والأشرار"، تأثيراتٌ جمة على المشهد السياسي.
وقد كشفت التداعيات، أخيراً، عن تشوهاتٍ في ازدواجيةِ العلاقةِ بين السلطة المركزية ومجالس الهيئات المحلية في الأراضي الفلسطينية، أدت إلى انقطاع حاد بين السلطة المركزية التي تتحكّم بشؤون الحكم الذاتي السياسي والاقتصادي والاجتماعي وعموم الناس في الضفة الغربية وقطاع غزة والمُنشغلة بشؤون حياتها اليومية، لا بما تُقرّره السلطة المركزية، وقد ساهم ذلك في تعميق التلازم البنيوي بين شكل النظام السياسي وغياب الحوكمة الرشيدة.
ولما ذُكِرَ تداعياتٌ بنيويةٌ على النظام السياسي، أوصلته إلى حالة ما أطلقَ عليهِ بعضُهم "انفلات الشرعية الفلسطينية"، نظراً إلى وهنٍ في بنية النظام، فلن تقف التداعيات، كما أشار محللون، على مُعضلةٍ قضائية فقط تتعلق بتغول السلطة التنفيذية في القضاء، إنما سيمتد تأثيرها على تعميق المركزية السياسية، واستمرار محدودية الدور المناط بمجالس الهيئات المحلية، وتهميش إرادةِ المجتمع المحلي، وتهميش دورِ مؤسسات المجتمع المدني، وتهميش إرادة الفصائل السياسية، ولكل ذلك تأثيرٌ جليٌ على التنمية المحلية، وعلى انهيار النظام السياسي.
وفي اعتقادي، هنا، نتحدّث عن وجوب نضالين؛ الأول: شعبي ومدني، لإجراء تعديلات على الوضع القائم وإصلاح القوانين واللوائح الناظمة لعمل مجالس الهيئات المحلية، في سبيل رفع مستوى المشاركة. ونضالٌ من أجل الاستقلال والتحرّر. لا يقل الأول أهمية عن الثاني في مراحل التحرّر، وكلاهما على الأقل ما حصل للهند.