أعمال شاقة في ألمانيا

أعمال شاقة في ألمانيا

24 نوفمبر 2016

ساحة جندارمنماركت في برلين (ويكيبيديا)

+ الخط -
عندما عثرت على بيتٍ للسكن في ألمانيا بشقِّ النفس، ومعها تفريعة، مثل تفريعة السويس، كنت قد وقعت على عقدٍ لم أفهمه، وقد وقعت، مثل غيري من السوريين النازحين، في فخاخ عقودٍ ذهبت ضحيتها أموالٌ غير قليلة؛ مثل توقيع عقد على مشاهدة أفلام مدفوعة الثمن، وكانت في سورية مجانية، طبعاً الأفلام العالمية مجانية، أما كلمة "لا" فتكلف العمر كله، ومثله: عقد شراء مكتبة كتب فلسفية للاجئ لا يفكُّ الحرف الألماني، فالسوري ما قال: لا قطُّ، إلاّ في تَشَهُّدِهِ،َ لوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ، فما نأخذه من أموال الإعانة باليد اليمنى، تأخذه الحكومة الألمانية باليد اليسرى. كل يوم أجد نفسي متورطاً في عقد جرى بالهاتف، فالحكومة تقبل بتوقيع العقود الشفاهية عبر الهاتف، أقول: ألو أهلاً، فأكون قد وقعت على عقدٍ يودي بي إلى التهلكة المالية، فتوقفت عن الرد على الهاتف، وصرت كائناً من كائنات الواتس أب، يا مرحوم الأب.
أخبرني شريكي في المدخل، السيد شيللر، أنّ من واجبي، حسب العقد، أن أحصد الأعشاب البازغة تحت بلاطات المدخل، وجمع غلال الأشجار من الأوراق والكستناء المرّة، وهي تحتاج إلى أعمال شاقة، حاولت إقناعه أنَّ منظر الأعشاب المنبثقة تحت البلاط رائعة، وأني أنتزعها وكأني انتزعها من روحي، فأنا أستبشر بها، وهي تعِد بالأمل، وتبزغ من تحت الصخر، فلم يقتنع فهو وحيدٌ ويعشق النظام، ليس النظام الذي نريد إسقاطه طبعا. ليس له ابن أو أم أو أخت أو حتى كلب، وهو يتسلى يومياً بمصفوفات الحدائق وحساب خوارزمياتها، وهكذا وجدت نفسي أغني مع علي الديك: مابو بالزرع شميل، وتورَّمت يدي اليمني من نزع الأعشاب بالمنجل والمنكوش، واليسرى أيضاً، ما إن تصافحني ألمانية راحتها كراحة الحلقوم الطريّة الشهيرة حتى أصيح من الألم.
وكان قد سافر مدة شهر في إجازة إلى الفيليبين، وهي مهوى أفئدة ألمان كثيرين، ولا أدري سبب حبهم لهذه البلاد، ويقال إن سببها الرئيسي هو شهرتها بالمدلّكات اللاتي تفجرن الينابيع في ظهور الألمان الصماء، وحصلتُ على إجازة من الأعمال الشاقة، بعد سفره إلى بلاد التدليك والتسليك، لكن يدي لم تشفَ من آلام حروب الحصاد، وشيللر رجل لا يريد عشبةً صغيرةً بين أحجار البلاط السوداء، خوفا من تسوّس أضراس الحجر.
دار الشهر، ووجدت نفسي في مأزق، وقد غرّدت الأعشاب بين ثنايا البلاط، وتحولت إلى حديقة صغيرة، نباتات وأشواك جميلة، اخترقت الحجر، ولم تفلح معها موانع الكيماوي، سيعود شيللر غداً، فعسكرت في الثغور، وودعت الكسل، ونصبت خيمة وأريكة تحت شجرة الكستناء، وشمّرت عن ساعد الجد، أعمل ساعتين، وأرتاح دقائق. وكانت الجمعية السورية قد أهدتني علبة من حلاوة الجبن والكعك المحشوّ بالتمر والجوز وروائح الشام، فأعددت لنفسي متكأً، على أن آكلها في الاستراحة، وأقبلت على العمل قبل عودة شيللر. فجأة رأيت نوري وصديقته الألمانية قد سقطا عليّ من غياهب الضحى، فدخلا على الرحب والسعة، وصافحني نوري، فتألمت وصافحتني صديقته باولا، فتأوهت من حرقة العسل، واعتذرت منهما، فأنا لا أريد أن أخسر الدار الكريمة، فتركتهما على الأريكة، وعدت إلى العمل مع أغنية علي الديك في بالي، أتحدث معهما وأنا أعمل، ونوري يشجعني ويشدُّ من أزري رافعاً المعنويات: العافية خال..
كنت أتمنى أن تأخذه النخوة فينزل للمساعدة، لكنه انشغل بالاندماج وتعلم اللغة. الشاب مخلص في تعلم اللغة بلهجاتها التي مثل راحة الحلقوم.
انتبهت إلى أنه قضى على حلاوة الجبن قضاءً مبرماً، وجعل الصحن يصفِّر مثل الفتخاء، ثم عرج على العنب، وصار يقطفه من العنقود، ويزقّه في فم الحسناء الألمانية باولا، ذات البنطلون الممزق بأنياب "الموضة"، على طريقة الطيور، منقاراً بمنقار، ويصيبني بالعلل والأسقام، وهو يأكل ويزق في ثغرها القبل، ويقول: العافية يا خال.

دلالات

683A43FF-D735-4EBA-B187-3AC9E42FAE32
أحمد عمر

كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."