المغرب الذي يريدون

المغرب الذي يريدون

17 يونيو 2016
+ الخط -
يصعب العثور على مبرّر مقنع، أو سبب منطقي، لتفسير السلوك الإعلامي الذي تنتهجه مجموعة من وسائل الإعلام الفرنسية تجاه المغرب، بما فيها التي تنتمي إلى الجوار الجغرافي، وتحديدا الصحافة الجزائرية. تبرز عشرات الأسئلة، ما يجعلك تحاول الوقوع على الأعذار الممكنة والمستحيلة، فتستحضر، مثلاً، البعد الجغرافي والحساسيات التي قد تولدها عوامل السياسة وحساباتها. لكن، مع ذلك لا تهتدي إلى جواب يشفي الغليل، ويبدّد الغمة التي لا يستسيغها ولا يتحملها المغاربة.
الأدهى في المسألة أن بعض القنوات الفرنسية تتابع، بشكلٍ مبالغ فيه، ما يحدث حتى في قرية صغيرة، في منطقة هامشية، وتوليه العناية اللازمة، ولا تدّخر جهدا في التهويل من الأمور وتضخيم وقائع وأحداث قد تبدو عاديةً وطبيعيةً في مسار تطور (وتحوّل) أي بلد صاعد بالمعنى السياسي والاقتصادي. أيكون أداء الإعلام العمومي المغربي، وكذا الصحافة الخاصة، وصعوبة العثور عليها في شبكة الإنترنت، ومحدودية انتشارها وفاعليتها وتنافسيتها وإغراقها في المحلية، هو ما يدفع صحفاً وقنوات أجنبيةً إلى توجيه ضربات إلى المغرب، والطعن في طموحاته الديمقراطية، وتطلعاته السياسية ورهاناته الاقتصادية، والسعي، بشكلٍ ملغوم وملتبس، إلى تسويق خطابٍ سلبيٍّ وعدائي عن المغرب، بدوافع غامضة، وفيها جرعة كبيرة من التحامل والتضليل والتشفي.
وعلى الرغم من أننا، في المغرب نمعن في جلد ذواتنا وتعذيبها إلى حد المبالغة، فإنه، في المقابل، لا يجب أن نقلل من قيمة المجهود المهني والفكري الذي تبذله بعض وسائل الإعلام المغربية. وليس متصوّراً، كيفما كانت التبريرات والتفسيرات، أن تكون دول في المنطقة العربية مازالت ترى في المؤسسات والقوانين والاستشارات الشعبية والمساواة أشباحاً مخيفة وتهتز لها الفرائص. وفي المقابل، حقق المغرب، بحكم عوامل تاريخية وسياسية وثقافية وديمقراطية وتضحيات نضالية، طفرة لا يستهان بها، على صعيد حرية التعبير والرأي، وبات من العادي الخوض في قضايا وموضوعاتٍ لم تعد تنطوي على هالةٍ من القداسة والخوف، على غير ما كان الأمر عليه في سنوات ماضية، غير أن المغرب يقدّم وكأنه بلد عقيم، لا يلد أفكاراً ولا يقدّم حلولاً، ولا يعيش دينامية سياسية ودينية واقتصادية واجتماعية، وكأنه لا يعرف نقاشاً جاداً حول ملفاتٍ مصيرية وظواهر وممارساتٍ تعيق تطور الممارسة الديمقراطية، وتحديث المجتمع، وإحداث القطائع الكبرى التي تعتبر ضرورةً حاسمةً لإنهاء التردّد في التعاطي مع مجموعة من الاختيارات والقيم.
مؤكد أن لدى المغرب هفوات وأخطاء، كما أن لديه نقاط قوة وإنجازات يجب أن تتعامل معها
وسائل الإعلام التي تحركها أجندة معينة بمهنية ونزاهة، لكن هذا الصنف من الصحافة غالباً ما يلهث وراء النقاط السوداء لتعميم اليأس وإشاعة الإحباط. وإن سلوكا إعلاميا على هذا المنوال، لا يحتكم إلى وضوح الواقع، ولا يستند إلى معيار المهنية، علماً أن القيّمين على بعض القنوات التلفزية، يعرفون أن لهم شريحة لا يُستهان بها من المشاهدين، ومن منطلق احترام هذه الشريحة، يتعيّن على هذه القنوات أن تطل من شرفة الواقعية على ما يحبل به المغرب من أحداث، وما يعتمل، في نسيجه السياسي والاجتماعي والثقافي، من تفاعلاتٍ ونقاشاتٍ وتطورات، وأن تخصص مساحة من المتابعة لهذا المشهد الحيوي الذي تتصارع فيه تياراتٌ وخياراتٌ، صراعاً فكرياً وديمقراطياً، لبلورة أرضياتٍ وتصوراتٍ تلتقط ذبذبات المجتمع ونبضاته، لا أن تختزل المغرب وتحولاته، على سبيل المثال، في ممثلةٍ مغمورةٍ، وغير سوية نفسياً وذهنياً بحكم البيئة التي عاشت فيها، والتي كانت تحلم بأن تكون عاهرة معروفة عالمياً، كما صرحت على شاشة فرانس 2 في استضافتها، بمناسبة صدور كتابٍ لها، عن دار نشر فرنسية في مايو/ أيار الماضي، علماً أنها بالكاد تجيد اللغة الفرنسية.
بديهيٌّ أن يُصاب المشاهد المغربي بخيبة أمل وتلاحقه الصدمات، على الرغم من حماسة وانفعال جزء كبير منه في الدفاع عن عراقة الإعلام الفرنسي وجودته، وهو الإعلام الذي يعتبر نموذجاً مثالياً في الممارسة المهنية، وفضاءً رحباً للرأي الحر والاختلاف والتنوع والتعدّد.
وما يثير الانتباه، في سياق تناول هذه الظواهر الإعلامية، انخراط صحف وقنوات جزائرية في حملات غير مفهومة، للتهجم على التجربة الديمقراطية المغربية، وشيطنة كل مبادرة يطلقها النظام السياسي وتشويه هذا النظام، وتحميله كل المآسي في شمال إفريقيا، وخصوصاً انهيار حلم إقامة الاتحاد المغاربي. وعندما تتناول صحف وتلفزات جزائرية الشؤون المغربية، فإنها تعمد إلى المقاربة الأسوأ، وكأن المغرب بلد يرقد فوق برميلٍ من البارود، قابلٍ للانفجار في كل حين، ولا تنتشر على ترابه سوى مدن الصفيح وأحزمة البؤس والخروق المرتكبة ضد حقوق الإنسان والاضطرابات والانفلات الأمني، وكل الصور السوداء والقاتمة.
وللتمادي في تشويه صورة المغرب، بقصد أو بدونه، لا تتردد بعض القنوات، بما فيها الفضائيات الإخبارية، في استضافة أجانب غير مقنعين، تحت مسميات خبير ومحلل، ينوبون عن المغاربة في تحليل أوضاعهم، أو تتم المناداة على أصوات شاذة في المشهد السياسي والفكري المغربي. وأمام هذا السلوك غير المفهوم، لا يمكن للمواطن المغربي إلا أن ينتابه قلق جرّاء هذه المقاربة، وهذه النظرة. وبالتالي، تصنيفها في خانة التحامل الإعلامي الذي يكون وراءه، أحياناً، حفنة من المصابين بحساسية تجاه المغرب، أو اللوبيات المسكونة بعقدة المغرب، وهي لوبيات قاصرة في فهمها الأمور، وسريعة التفاعل مع أي رأيٍ يبدو لها معارضاً ومنتقداً وراديكالياً، ولا تتردّد هذه اللوبيات في استغلال ما تتوفر عليه من مواقع وهوامش للتحرك والمناورة، لتُقصي المغرب من أجندة بعض الفضائيات والصحف، وتتعامل معه باستصغارٍ كثير، وأحياناً من موقع الأستاذية وتلقين الدرس. والدليل أن الأخبار والتقارير التي تبرمج ضمن دليل النشرات والمتعلقة بالمغرب تصنّف، دائماً، في نهاية النشرة، وهذا وحده عامل استفزاز يكفي ليحرّك في دواخل كل مغربي حساسية تجاه منابر إعلامية، لا تقتات سوى على حمامات الدم ومشاهد القتل والدمار الشامل.
هناك قناعة راسخة لدى معظم الفاعلين المغاربة، في مختلف المجالات، مفادها بأن القضايا والمشكلات والصور التي ينبغي تسويقها عن وطنهم لا يمكن إلا أن تكون ملك المغاربة. وهذا ما يحتّم، حسب القناعة نفسها، فتح ورش البناء الحقيقي للصرح الإعلامي الوطني، وتمتين هذا الصرح وتمكينه، من شروط النجاح المهنية والبشرية والتقنية والمالية والقانونية، بما في ذلك الشرط المتعلق بخيار الحرية، الضامن الأساسي للإعلام الهادف والمواطن، المؤمن بالتعدّد والاختلاف والمساواة والقيم الإيجابية، خصوصاً في ظل مرحلة سياسية، ترفع فيها شعارات مؤسسة ومفصلية، كالمصالحات والإصلاحات الكبرى والحداثة والديمقراطية والتنمية المستدامة ودولة الجهات، التي نص عليها الدستور المغربي، ودخلت حيز التنفيذ، في أعقاب الانتخابات المحلية التي جرت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.