الدراما وتَسْفيهُ الثورة المصرية

الدراما وتَسْفيهُ الثورة المصرية

21 يوليو 2016

"ليالي الحلمية" الجديد ينال من منجز ثورة 25 يناير

+ الخط -
تُمثل الدراما إحدى الواجهات الأساسية التي توظفها قوى الثورة المضادّة في المنطقة (مصر تحديداَ) لتبرير وتسويق إجهاضها الثورة وانقضاضها على السلطة وإعاقتها التحول الديمقراطي بعد إسقاط نظام حسني مبارك، وذلك لما تمتلكه هذه الدراما من وسائل التشويق والإمتاع والإبهار والتأثير على الجمهور.
وتقدم الدراما المصرية، بين حين وآخر، أعمالاً يندرج كثير منها في سياق تعزيز هذه التوجّه، حيث يخرج مشاهد هذه الأعمال بما يتجاوز الانطباع العابر إلى قناعةٍ بأن هناك سياسة ممنهجة ومدروسة لتسفيه ثورة 25 يناير، والنيْل من منجزها السياسي والإنساني والتاريخي، والطعن في مبرّراتها ومشروعيتها، والتقليل مما قدمه الشعب المصري من تضحياتٍ جسيمةٍ من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية. والغاية من هذه السياسة أمران دالان، شرعنةُ انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 الذي حمل عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، ومحاولةُ خداع الرأي العام المصري والعربي بإيهامه أن حركة ''30 يونيو'' هي الثورة الحقّة والأجدر بالتقدير والتخليد، وبالتالي، كان الانقلاب الذي تلاها استجابة لمطالبها و''تتويجاً منطقياً'' لها.
أَحدث فصول ذلك، الحلقة الأخيرة من الجزء السادس من مسلسل ''ليالي الحلمية'' في موسم شهر رمضان الماضي. وفضلا عن أن هذا الجزء لم يرق إلى الأجزاء السابقة، من حيث الرؤية والمعالجة والحبكة الدرامية والتماسك الحكائي، إذ اعتبره كثيرون إساءةً معيبةً لإرث الراحليْن أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ، فضلا عن ذلك كله، جسّد حلقة دالة (لا سيما من حيث توقيتها!) ضمن سياسة التسفيه هاته، باستغلال فج للإرث الفني والوجداني للمسلسل، والزجّ به في معترك النيْل من ثورة 25 يناير، ومنجزها الوطني الرفيع. فالذين فجّروها وأطلقوا شرارتها وقادوها حفنة انتهازيين من صحافيين مرتشين (صفوت سلطان استغل الثورة لتصفية حساباته المهنية والعائلية مع خصومه) ولصوص القطاع العام (حلمي خليف الذي يتكيّف مع كل المتغيرات) وبلطجية مندسين (مشهد قتل ممثلة في مظاهرة). كما أن أعمال النهب والسلب التي واكبت نجاحها تتضمن ما يشبه الإدانة السياسية لها، على اعتبار أنها أدخلت البلاد في موجةٍ من الفوضى وعدم الاستقرار والتسيب وتفكيك النسيج الوطني.
حضر دور وزارة الداخلية في مسار الأحداث بقوةٍ في الحلقة، فهذا الجهاز الحساس، وإن كان مصدر تجاوزاتٍ استثنائيةٍ ومعزولة، إلا أن معظم مسؤوليه لا يقلّون وطنيةً وخوفاً على مصير مصر ومستقبلها. يبدو ذلك مثلاً في مشهد لواء الشرطة، علاء زهدي، وهو يعترف، في حديثه مع عادل البدري، بوجود الظلم والفساد في البلد، لكن ذلك لا يحتاج، حسب رأيه، لثورةٍ، بل لإصلاح تدريجي يتطلب الصبر والوقت، كما أن ''الرجل الكبير'' (يقصد مبارك) كان مستعدا للانخراط في هذا الإصلاح، قبل أن ينهي كلامه بجملة تضج بالدلالة: مصر ليست تونس.
تتوالى المشاهد في سعي حثيثٍ إلى إعادة قراءة الأحداث والوقائع، بما يخدم أجندة قوى الثورة المضادّة في المنطقة، فالثورة لم تكن محط إجماع معظم مكوّنات الشعب المصري، فعلاوة على أن كثيرين ظلوا على ولائهم لمبارك الذي كان بمثابة ''الأب'' لهم، فقد أفضى اندلاعها إلى تصفية حسابات طبقيةٍ واجتماعية (اتهام الوزيرة السابقة زهرة سليمان غانم المنحدرة من البرجوازية الوطنية بالتربّح غير المشروع من منصبها)، وكذلك تقديم القوى الثورية والمدنية بأنها لا تتورّع عن تخوين الجميع، وعدم احترام الرأي الآخر، والمبالغة في شيطنة "الإخوان". ويبرز عدم التطرّق لشهداء الثورة طبيعة الخلفية السياسية التي تحكّمت في المعالجة الدرامية ووجهتها.
لا مجازفة في القول إن التساؤلات التي واكبت الإعداد للجزء السادس من ''ليالي الحلمية'' حول المغزى من العبث بأحد أهم مسلسلات الدراما المصرية، وأكثرها مشاهدة في العقود الثلاثة الماضية، لا تجد إجاباتها فقط في إخفاق هذا الجزء في الالتحام الفني السلس بالأجزاء السابقة، بل، أيضا، في ترويج حلقته الأخيرة رواية قوى الثورة المضادّة عن ثورة 25 يناير، وهي تدفع المتلقي (المشاهد هنا) إلى انخراط (غير واعٍ) في تسفيه واحدةٍ من أكثر الثورات العربية ملحمية وتأثيرا.
يدرك نظام السيسي أن قاعدته الاجتماعية هشة، وأن ما تشهده المنطقة من احتراب وفوضى ودمار يشكل أحد موارد ''شرعيته'' التي تتآكل يوماً بعد يوم. لذلك، لا يجد أفضل من الفن والإعلام لتلميع صورته وسياساته الداخلية والخارجية.