يوم حلو... يوم مر

يوم حلو... يوم مر

15 مارس 2017

(خالد تكريتي)

+ الخط -
تقول الكاتبة الأميركية، أندريا غيبسون، "جميعنا ولدنا في أيام مات فيها الكثير من الناس بطرق رهيبة. ومع ذلك، لا زلنا نطلق على تلك الأيام اسم عيد ميلاد". ويقول جبران خليل جبران "الفرح والحزن لا ينفصلان، معاً يقبلان، وإذا ما انفرد بك أحدهما على المائدة، فاعلم أن الآخر يرقد في فراشك، وهذا ما يفسر ذلك الشعور المبهم الذي نشعر به، حين نكون في قمة الفرح، ولكن شيئاً في داخلنا ينخز روحنا بأن حزناً سوف يباغتنا، وبأن هناك في الجانب البعيد قد حدث أمر مزعج، سيقطع لحظات فرحنا، أو سيجعلنا نكابر ونجاهد، لكي نضحك وقلوبنا تتقطع".
أقرب ما ينطبق على هاتين المقولتين هو ذلك المساء الآذاري الذي صادف ذكرى ميلاد ابنتي الكبرى (13 آذار/ مارس)، ذكرى تلك اللحظات التي أصبحتُ فيها أماً للمرة الأولى في حياتي، لا يمكن أن أجد مفرداتٍ تصف ذلك الشعور الذي غطى على كل الألم، حين كوّروها إلى جواري.
تعود رائحة تلك اللحظات كل عام مع ذكرى مولد ابنتي التي خبرت معها الأمومة الأولى، وأحرص كل عام على أن أحتفل بذلك اليوم، لأنه يعتبر نقلةً كبيرة في حياتي، حيث منحت لقب "أم" أول مرة، وحين كنا نمرح ونضحك مع صويحباتها قبل عامين، كنت أترك هاتفي النقال بعيداً عني، فلم أكن أريد لرنين طارئ أن يعكّر صفو هذه اللحظات، لأني واثقةٌ من أن حياتنا في بلادنا العربية تئن من الحزن، وأن شيئاً سينغص سعادتنا المؤقتة، فتابعت بنظراتي ابنتي التي بدا وجهها مشرقاً، وهي تتنقل في المكان كفراشة، لكن تلك الوخزة داهمتني فجأة، فوضعت يدي على صدري لأحبسها، فألحت وانتقلت إلى مكانٍ قريب بعيداً عن محاولات كفي لإخمادها. وهنا، كان لا بد أن أسرع إلى هاتفي، ما الذي جعلني أفعل ذلك سوى ما تعلمناه من أمهاتنا وجداتنا، اللاتي تبرمجت عقولهن على عدم الفرح الكثيف، فكلما أغرقن في الضحك والبهجة حتى تسيل دموعهن يردّدن بجزع لا يخفى: "اللهم اجعله خيراً". وهكذا كنت أمسك بهاتفي، وأقرأ رسالة وصلت إليّ تنعى شاعراً وكاتباً فلسطينياً قديراً، هو عبد الله رضوان.
اختار أن يرحل في ذلك اليوم، هو الأستاذ الذي أفنى عمره في دعم الأدب والثقافة ورعاية المثقفين، وشاءت الظروف أن أتعرف عليه من خلال "فيسبوك"، فآمن بموهبتي، وأمسك بيدي، وقدم لي أقصى ما يستطيع من مساندة ومؤازرة، دأبه في هذا مع كل المبدعين والمبدعات الشباب، فكان له الفضل الكبير علي وعليهم، وها هو خبر وفاته يأتيني مسطوراً بحروفٍ باردة على شاشة هاتفي، فيما صوت المرح يتعالى من مكان قريب، فأحتار كيف أتمالك نفسي، وأكتم مشاعري.
في يوم ميلادها، أصرّ أن يعلمني درساً لا ينسى، وهو أن الحياة ما هي إلا لعبة من شوطين، هما الموت والحياة. في اليوم الذي ولدت فيه أكبر فرحة في حياتي، والذي أشرقت فيه شمس أمومتي، يرحل رجلٌ قلّ أن ألتقي مثله، رجلٌ رحل في صمت، وطواه النسيان، ولكن يوم رحيله المتزامن مع يوم ميلاد ابنتي يصرّ على تذكيري. عليّ أن أتذكّر كم كان هذا الرجل عظيماً، ولكن العظماء أيضاً يرحلون، كم كان أهله يتلهفون وينتظرون ويتقلبون بين الأمل والرجاء بأن يفيق من غيبوبته، فيما كان آخرون كثيرون يضحكون ويمرحون، فيما كنا نحتفل بالحياة، كان هناك من يقف مستسلماً أمام منجل الموت.
بعد هذه الحادثة، أصبح الخوف يلازمني من الفرح والمناسبات السعيدة، وللحياة فلسفة جديدة في منظوري، لم أعد أقيس بهجتي إلا بقدر ما تستحق، لأن البهجة ما هي إلا شوط واحد في حياتنا، فيما يصر الحزن على قطع أشواط فيها.
إليه، ومع آذار، شهر الأزهار التي كان يحبها ويرعاها، مثلما يرعى براعم الأدب والثقافة، أقول له: لن ننساك، يا أبا علاء.. ولابنتي التي أدخلتني مختبر المشاعر المتداخلة أقول: عساك تدركين أشواطاً أكثر من الفرح.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.