لماذا لن يسلم الجيش السلطة في مصر؟

05 اغسطس 2018
+ الخط -
يتساءل الناس والمهتمون بالأمور السياسية في مصر، وفي غيرها، وكل الشعوب التي تقع تحت الحكم العسكري، وكذا رجل الشارع العادي، إلي جانب محسوبين على الانتفاضة الثورية في يناير/ كانون الثاني 2011: هل سيسلم الجيش السلطة؟ وعلى الرغم من جدية الطرح ومشروعيته، إلا أن توقيت طرح السؤال ليس مناسبا، وليست الظروف هي الظروف التي تقود إلى طرح ذلك السؤال، فقبل تسليم الجيوش السلطة، هناك ظروف تاريخية تحدث تقود إلى اتخاذ الجيوش مثل تلك القرارات. ومن دون الدخول في سرد تلك الظروف، لا يتسع المقام لها، إلا أن هناك خمس دلالات في مصر تقول إن الجيش لن يسلم السلطة.
أولها أن ما يقوم الجيش بفعله وما فعله هو عملية غلق للمجال العام، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وعدم الإبقاء على أي حليف طبقي مستقبلي، قد يتم نقل السلطة إليه، على غرار ما كانت تفعله الجيوش في أميركا اللاتينية، والتي كانت تبقي على حليف طبقي لها، ستسلمه السلطة في يوم من الأيام. ثانيا، من الواضح أن الجيش في مصر مشغولٌ بتمكين سلطته أكثر من أي وقت مضي، وتعزيز سيطرته الاقتصادية، يتجلى تعزيز السلطة في أمور مختلفة، جديدها في قانون التحصين الذي أصدره عبد الفتاح السيسي في الرابع من يوليو/ تموز الماضي، بالاتفاق بين أعضاء المجلس العسكري السابقين والحاليين، وصدر بناء على توازنات قوى داخل السلطة، بموجبها يضمن اللواءات الخروج الآمن على طريقة المشير حسين 
طنطاوي وغيره، كما يضمن للسيسي عملية استمراره في السلطة. يتضح جليا معنى البقاء في السلطة، وعدم النية في التخلي عنها في بنود هذا القانون، من خلال تفحص مواده المختلفة.
المواد الثانية والثالثة والرابعة تحصين العسكريين، ومزيد من المزايا المادية والاقتصادية لهم، وبالتالي ما يعني زيادة الحصة الاقتصادية للمؤسسة العسكرية، وضمان الولاء للبقاء في السلطة أكثر للقائد الأعلى. تم نشر المادة الخامسة في البداية في الإصدار الأول خصيصا للعامين، 2013 و2014، أي أنها تتضمن الفترة التي حدثت فيها المجازر التي ارتكبت في منطقة الحرس الجمهوري وميدان رابعة العدوية تحديدا، ثم تم تعديلها لتكون مفتوحة، لكي تشمل الفترة التي تولى المجلس العسكري فيها السلطة في أعقاب الانتفاضة الصورية في يناير/ كانون الثاني 2011؛ وكذلك تحصينا من الملاحقات الخارجية من المحاكم الدولية (محكمة العدل الدولية) أو التوقيف في أي دول أخرى؛ كما أنها تتضمّن منح العسكريين صفة جديدة، وهي صفة الحصانة الدبلوماسية للسلك الدبلوماسي. وهنا تنازع واضح لاختصاص الخارجية، وتعدٍّ على القانون الدولي الذي منح أعضاء البعثات الدبلوماسية الحصانة، إلا أن هناك سؤالا هل هذه الحصانة الخاصة بالجنرالات تسري عليهم، حتى بعد خروجهم من السلطة، فالمعروف أن من يكون منهم في السلطة، ويتم تكليفه بمهمة خارج البلاد، يتمتع بالحصانة. وبأخذ تلك النقطة في عين الاعتبار، يعتبر هذا القانون امتداداً للذي سبق وأصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر، باعتبار جميع أعضاء المجلس آنذاك مستدعين للخدمة بالقوات المسلحة مدى حياتهم، بغرض إنقاذهم من أي مساءلةٍ عن الوقائع الدامية التي جرت في أعقاب الثورة، مثل أحداث "مجلس الوزراء" و"محمد محمود" وماسبيرو"، ومنع تحريك أي بلاغات فساد ضدهم أمام جهات التحقيق القضائية العادية.
المادة السادسة، وهي تختص بتعليق العمل بالدستور في أي فترة مرت أو أي فترة مقبلة، سيتم تعطيل الدستور فيها، وهذا يعني أنه ليس في نية الجنرال أو المؤسسة ترك السلطة، ويعني أيضا أن القتل تم شرعنته بموجب هذا القانون، في حال قرّر الناس الخروج إلى الشارع، تحسبًا لأي حراك شعبي مستقبلي، وكأن هناك صكّا على بياض بالقتل، يتضمنه هذا القانون. في الوقت نفسه، قد تكون الخطوة المقبلة عملية تغيير في تكوين المجلس العسكري، ولعل استبدال وزير الدفاع أحد المقدمات لذلك. وقد منع هذا القانون أيضا أي أحد من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية أو التفكير فيه، إلا بعد أخذ رأي المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهذا يعني أنه لن يترشح أحد، لأن السيسي أراد أن يكون وحيدا في السلطة، وبذلك قطع الطريق علي أي أحد له طموح. وبالتالي ثمة نقطة يجب التذكير بها، وهي أن قانون التحصين هذا بمواده المختلفة، خصوصا مادة الترشح بعد أخذ إذن المجلس العسكري، صممت أيضا لكي تشمل الحالة التي كان عليها رئيس أركان الجيش المصري السابق والمرشح الرئاسي السابق، الفريق سامي عنان، ما يدل على أن ما تم مع الرجل لم يكن قانونيا، لأن هذا القانون لم يكن قد بدأ سريانه.
من ناحية أخرى، يعكس هذا القانون أيضا الصراع التاريخي بين مؤسسة الأركان/ الدفاع ومؤسسة الرئاسة (جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، أنور السادات والفريق سعد الدين الشاذلي، حسني مبارك وعبد الحليم أبو غزالة، وأخيرا بين عبد الفتاح السيسي وسامي عنان). وفي كل مرة، كان الصراع يحسم لصالح مؤسسة الرئاسة، ما عدا لحظات التحوّل الكبرى، مثلما حدث في الأسبوعين الأخيرين من حكم مبارك.
ويعكس القانون في مجمله قلقا مستقبليا، لكنه لا يوحي أن الجيش ينوي تسليم السلطة في وقت قريب، فهو يقوم يتحصين نفسه داخليا وخارجيا؛ لربطه كل شيء بالمجلس العسكري، وهذا توريط أكثر للمؤسسة العسكرية، لربطها بتلك الجرائم بصورة جماعية. وستكون الخطوة المقبلة عملية التحضير لتعديل الدستور بعدم تحديد مدد الرئاسة.
الأمر الثالث: يتزامن إصدار القانون مع محاولات السيسي بناء جهازه الأمني الذي يحكم من خلاله، عوضا عن المشروع السياسي، ولملء الفراغ الذي أحدثه الانقلاب الذي قام به، فالجنرال لا يؤمن بالسياسة، وقد صادر الحياة السياسية واعتقل رئيس حزب سياسي شرعي، هو عبد المنعم أبو الفتوح. وهنا تتجلى استراتيجية السيسي في إعادة بناء الجهاز الأمني، والتي تستند على أمرين أساسيين: أن تكون كل تلك الأجهزة خاضعة لجهاز المخابرات الحربية الذي أصبح أهم جهاز أمني يتولى الملفات السياسة، ويسير الأمور داخل الدولة وخارجها، كما أن اثنين من أبنائه داخل الجهاز، ما يشكل نوعا من الثقة له. عدم إبقاء أي فرد مدة طويلة في منصبه، لكي يمنع أيا من الولاءات داخل مؤسسات الدولة، وفي ذلك استفادة مما وقع فيه الرؤساء السابقون في مصر، من عبد الناصر مرورا بالسادات وانتهاء بمبارك، وهي عدم استوزار أي شخص مدة طويلة في منصبه، خصوصا داخل الأجهزة الأمنية، أو الاستعانة بشخصٍ له شعبية، قد تهدّد مستقبل الرجل نفسه. ولعل نقل تبعية جهاز المخابرات العامة إلى مدير مكتبه، عباس كامل، يعني أن الأخير دخل حيز انتهاء الخدمة، وتم إبعاده عن مركز اتخاذ القرار الرئيسي، وهي مؤسسة الرئاسة، ما يؤكد سريان الاستراتيجية المتبعة في عدم الإبقاء على أحد في منصبه مدة طويلة.
الأمر الرابع، لن تتم عملية تسليم الجيش للسلطة في مصر عبر قنوات محلية، بل من خلال قوى دولية وإقليمية، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، والتي ترى في المؤسسة العسكرية المصرية أهم حليف لها. وبعد الانقلاب الناعم الذي مرّرته المؤسسة العسكرية على حسني 
مبارك، في فبراير/ شباط 2011، قال أحد قيادات مؤسسة الدفاع الأميركية لقناة تلفزيونية أميركية" "حليفنا الأساسي داخل السلطة في مصر هو الجيش". ويعكس هذا القول مدى الارتباط بين المؤسسة العسكرية المصرية والولايات المتحدة، وأن التغيير وإبعاد الجيش من السلطة لن يمر إلا عبر بوابة الولايات المتحدة وحلفائها. وفيما يتعلق بالقوي الإقليمية، الأمر مرتبط بالسعودية والإمارات، إلى جانب حليفهم الإسرائيلي، فكل منهم يرى في جماعة الإخوان المسلمين (كأقوى معارضة منظمة في مصر) الخطر الحقيقي على حكمهم، إلى جانب الخطر الذي تمثله حركة حماس على إسرائيل باعتبارها امتدادا لجماعة الإخوان المسلمين.
ثمّة أمر أيضا يتمتع به نظام السيسي وحكم الجيش، وهو المشروعية التي أعطاها الغرب له، فبينما يتظاهر الغرب بالديمقراطية فإن ما يهمه في الأساس مصالحه الاقتصادية من بيع أسلحة وغيرها، وهي مربوطة في المقام الأول بالمؤسسة العسكرية المصرية. وبالتالي، تتراجع قيم الديمقراطية أمام قوة المصالح الاقتصادية.
الأمر الخامس، ويتجلى في عدم وجود معارضة منظمة، أو معارضة قادرة على صياغة رؤية سياسية للوضع الحالي، أو تقديم حلول، أو الاستفادة من المعطيات المتاحة لها، أو حتى تجاوز الانقسام السياسي الذي تم تأسيسه بعد إطاحة الرئيس محمد مرسي من السلطة، وبالتالي لن تشكل تلك المعارضة المفتتة أو الفاشلة أي خطرٍ على النظام الحالي. وقد يكون الخطر الوحيد من جماعة الإخوان المسلمين التي قد يتم التفاوض معها في يوم ما، على أساس أجندة النظام وتحالفاته الإقليمية، وللجماعة خبرة تاريخية في التفاوض مع النظام، وبالتالي قد يكون لها الدوافع للجلوس على مائدة المفاوضات، من أجل شيء واحد، هو الإبقاء على التنظيم.
سيسلم الجيش السلطة يوم أن تكون هناك رغبة شعبية عارمة، تستدعي خروج الملايين إلى الشارع، وتجعل إطاحة النظام الحالي المخرج الوحيد من أجل الإبقاء والحفاظ على جسد النظام، كما تم من قبل مع حسني مبارك، ولو خرج الجيش سيكون خروجا جزئيا وليس كليا، فالعملية تحتاج عقودا. وفي هذه الأثناء، لا يهم أن يكون هناك توافق إقليمي أم لا، المهم أن تكون هناك معارضة منظمة، لديها مشروع سياسي، تستطيع من خلاله اقتناص السلطة وفهم أسس اللعبة السياسية، وممارسة الضغوط المختلفة، وفهم عقلية الخصم لزحزحته من السلطة، وعدم الانصياع خلف مشاريع واهمة، وعبارات فضفاضة من قبيل أن الجيش سيسلم السلطة، فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.
BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.