الحرب ضد الاحتكار في تونس: الاستعراض وأسباب الانهيار

الحرب ضد الاحتكار في تونس: الاستعراض وأسباب الانهيار

18 مارس 2022
اهتم السياسيون بالصراع على السلطة وأهملوا مصالح الناس (Getty)
+ الخط -

يقول الرئيس التونسي قيس سعيّد حالياً، إنه يخوض معركة شرسة ضد الاحتكار والمحتكرين، بعدما فُقدت مواد أساسية من الأسواق، مثل السميد والطحين والزيت والسكر، التي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في أسعارها.

وعلى الرغم من أن الحكومة تؤكد أن هذه المواد متوفرة إلى حدود شهر مايو/أيار المقبل، بكميات تلبي احتياجات المواطنين، إلا أن الطوابير التي ظهرت في الأيام والأسابيع الماضية تثبت وجود أزمة غذائية في حالة تصاعد، وأن الفئات الفقيرة والطبقة الوسطى مهددة، في حال استمرار الأوضاع على ما هي عليه، خصوصاً أن شهر رمضان على الأبواب.

يعلم الجميع أن الأوضاع الاقتصادية في تونس متدهورة منذ ما قبل 25 يوليو/تموز الماضي، تاريخ إعلان الرئيس عن إجراءاته الاستثنائية. فمنذ قيام الثورة، اهتم السياسيون بمختلف اتجاهاتهم وألوانهم بالصراع على السلطة، وأهملوا في المقابل مصالح الناس وحماية قدرتهم الشرائية، وهو ما أدى إلى انسداد الآفاق، ووفّر فرصة ثمينة لسعيّد حتى يقلب الطاولة على الجميع ويفتك بالدولة.

الأزمة الغذائية في تونس في تصاعد، وتهدد الطبقتين الفقيرة والمتوسطة

وقد أيّد سعيّد في ذلك جمهورٌ واسع من التونسيين، ظنّاً منهم أنه الخيار الوحيد والأفضل لتصحيح المسار. لكن بعد مرور ثمانية شهور على ذلك الحدث الذي وصفه أنصار سعيّد بكونه "مرحلة جديدة من التاريخ"، يلاحظ بأن شيئاً لم يتغير على أرض الواقع، بل زادت الأوضاع سوءاً اقتصادياً واجتماعياً، ما دفع الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي، إلى المطالبة بـ"تعديل البوصلة"، والإعلان عن أن الاتحاد "لن يبقى مكتوف الأيدي أمام ما تشهده البلاد من تدهور الوضع الاقتصادي والمقدرة الشرائية للمواطنين".

تفسيرات سعيّد للأزمة في تونس

فسّر سعيّد الأزمة الراهنة بكونها نتاج عوامل ثلاثة؛ يتعلق العامل الأول بالتركة الثقيلة التي ورثها الرئيس عن الأحزاب التي حكمت طيلة المرحلة السابقة، ويحمّلها المسؤولية الكبرى في ما يصفه بـ"تدمير الدولة". أما العامل الثاني فهو جائحة كورونا. وأخيراً الحرب التي اندلعت بين روسيا وأوكرانيا.

وعلى الرغم من وجاهة هذه الأسباب، إلا أنها تقفز على الحالة الراهنة، وتبرئ السلطة من كل مسؤولية. لهذا، يواجَه الرئيس وحكومته بانتقادات قوية، ليس فقط من قبل خصومه المتربصين به، وإنما أيضاً من خبراء ونقابات ومنظمات محلية ودولية.

حكومة نجلاء بودن بين المطرقة والسندان

تكمن المشكلة الكبرى في أن حكومة نجلاء بودن تواجه ثلاث معضلات صعبة ومعقدة، وهي:
أولاً أنها حكومة تسير من دون سياسات واضحة، ولا تملك خطة تعتمد عليها في عملها. كما لا تتوفر لديها الآليات والمنهجية الضرورية لإخراج البلاد من المأزق الكبير الذي تردت فيه قبل احتكار سعيّد للسلطة وبعده. كما أنه غير مسموح لها بأن تجتهد أو تغامر بسبب محدودية صلاحياتها، ولا تملك شرعية دستورية أو برلمانية. لهذا فإنها تُعتبر حكومة تسيير أعمال، دورها مؤقت، ووجودها مرتبط بقرار من رئيس الدولة.

تعتبر حكومة بودن حكومة تسيير أعمال، وتعمل بميزانية ناقصة، ولا تحظى بثقة النقابات

ثانياً، أنها حكومة بميزانية ناقصة، في انتظار الشروع في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الذي بدوره ينتظر أن تعرض عليه الحكومة برنامج الإصلاحات التي تنوي الالتزام بها مقابل الدعم المالي الذي ستتلقاه. ونظراً لخطورة الإصلاحات المطلوبة وانعكاساتها المتوقعة على البلد، بقيت الحكومة مترددة وكتومة، ولم تكشف رسمياً عن نواياها الحقيقية، خصوصاً أن رئيس الدولة متخوف بدوره من أن يفقد شعبيته، لو قبل شروط مؤسسات التمويل الدولية التي يرى فيها أدوات للسيطرة والوصاية. لكن سعيّد وجد نفسه مكرهاً على التعامل معها والخضوع لإرادتها.

وثالثاً أنها حكومة لا تملك ثقة النقابات، وإن صبر عليها اتحاد الشغل وتجنّب أسلوب التصعيد، في انتظار الشروع في مفاوضات مباشرة معها. ويتوقع أن تكون هذه المفاوضات صعبة لكنها حتمية.

فحكومة بودن تجد نفسها بين المطرقة والسندان: من جهة الخطوط الحمراء التي تتمسك بها قيادة اتحاد الشغل، في حين يتمسك صندوق النقد الدولي بشروطه، التي من بينها الحصول على موافقة النقابات والقوى السياسية على الإصلاحات المطلوبة.

حملة فوضوية ضدّ المحتكرين

هل ستتمكن الحكومة من التغلب على هذه العوائق والتحديات؟ وحدها الأيام والاسابيع المقبلة ستجيب عن ذلك. في الأثناء، تواصل أجهزة الدولة، وفي مقدمتها وزارة الداخلية، ملاحقة التجار بحثاً عن المحتكرين، ومصادرة ما تجده في المخازن من سميد وبيض وغيرها من البضائع الحيوية.

وككل الحملات السابقة، وقع الخلط بين المحتكرين وبين التجار الذين يعملون بصفة قانونية، والذين تعددت شكاواهم بسبب ما تعرّضوا له من تجاوزات وأخطاء. ودفع ذلك بالغرفة الوطنية لتجار المواد الغذائية المنضوية تحت اتحاد الأعراف، إلى الاحتجاج والمطالبة بوضع حد لما وصفته بالانحراف الذي شاب حملة مكافحة الاحتكار، وطالبت الحكومة بوضع حلول نهائية لتجاوز النقص الفادح في المواد الغذائية المدعمة من الدولة.

وأكدت الغرفة بالخصوص على "مصارحة الشعب بالظرف الصعب الذي تعيشه البلاد وسائر بلدان العالم...والكف عن تقديم التجار ككبش فداء". ويُخشى حالياً أن تنزلق الحملة في اتجاه معاكس لمقاصد رئيس الدولة، وتسفر في النهاية عن توسيع دائرة الغاضبين.

 

 

المساهمون