الرياض تراهن على بكين لتأمين تطبيعها مع طهران

الرياض تراهن على بكين لتأمين تطبيعها مع طهران

11 ابريل 2023
عبد اللهيان وبن فرحان في بكين، 6 إبريل (رويترز)
+ الخط -

كان لإعلان تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران في بكين في 10 مارس/ آذار الماضي صدىً مدوّياً، لما له من تأثير على التوازنات الجيوسياسية التي تضع القوّتين العظميين، الولايات المتحدة والصين، في مواجهة بعضهما بعضاً في منطقةٍ مشحونة بالتوترات، حيث لا يزال الملف النووي الإيراني يشكل مأزقاً عصياً على الحل.

أجمع العديد من الخبراء والمتخصصين في شؤون المنطقة أن استئناف العلاقات الدبلوماسية السعودية الإيرانية المنتظَر تنفيذه في 10 مايو/ أيار المقبل ليس مفاجأة. بدأت المفاوضات بين المملكة العربية السعودية وإيران في إبريل/ نيسان 2021 بوساطة بغداد وبدعمٍ من سلطنة عُمان.

فمنذ أن وصل السلطان هيثم بن طارق إلى سدّة الحكم (يناير/ كانون الثاني 2020)، لم يُخفِ تقاربه مع الرياض وأبوظبي، بعكس ابن عمّه السلطان قابوس، الذي كانت علاقته بجارتيه متردية.

وتسارعت وتيرة المصالحة مع اجتماع وزيري الخارجية السعودي فيصل بن فرحان والإيراني حسين أمير عبد اللهيان في بكين في 6 إبريل الحالي لبحث تفاصيل عودة السفراء والقناصل. وأكد البيان عزمهما على إزالة أي عقبة تقف في طريق توسيع العلاقات بين البلدين.


تُعدّ إعادة تفعيل القرار الأمني، الذي أُبرِم في 17 إبريل 2001 من دون أن يدخل حيّز النفاذ، دليلاً على التطوّر الذي حدث

في المقابل، شكّلت وساطة بكين مفاجأةً أكبر بسبب إحجام الصين عادةً عن أداء دور في ما يخص القضايا السياسية والأمنية في المنطقة. ولكن نظراً لتعثُّر المفاوضات حول الاتفاق النووي مع إيران وتأثيرات الحرب الدائرة في أوكرانيا على تضخّم أسعار السلع الغذائية والوقود في المنطقة، وحدها بكين كانت تستطيع التدخّل لتهدئة الأوضاع.

تمكّن علاقات الصين المتينة بجميع اللاعبين الإقليميين، السعودية وباقي دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى العراق وإيران وإسرائيل ومصر، من تقديم نفسها كفاعل عالمي مسؤول، من خلال رعاية اتفاق يهدف إلى إخماد التوترات والحيلولة دون صراعٍ مفتوح بين إسرائيل وإيران.

الخوف من تفاقم الأوضاع

أجّج فشل الرئيس الأميركي جو بايدن في إعادة إحياء الاتفاق النووي وكبح التصعيد بين تل أبيب وطهران مخاوف الرياض وأبوظبي من تدهور الموقف. كانت العاصمتان تحثّان بكين منذ انحسار وباء كورونا على زيادة ثقلها في المنطقة بوصفها أكبر شريكٍ تجاري فيها.

ويعوّض التطبيع مع إيران، الذي بات ممكناً بفضل التزام بكين بضمان احترام كافة الأطراف لمبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، الفراغ الذي خلّفه فقدان الولايات المتحدة نفوذها السياسي لدى قادة الخليج، فضلاً عن عجز دول المنطقة التي تقوم بمهمة تيسير الحوار بين السعودية وإيران عن إتمام هذا الاتفاق.

وفي هذا الصدد، أثبتت الصين أنها أكثر الفاعلين قدرةً على ضمان جدّية طهران. علاوةً على ذلك، تمثّل المنصة التي تقدمها بكين لرعاية اتفاق التطبيع فرصةً جديدة للرياض، بعد فشل كل المساعي التي بدأتها مع واشنطن منذ 45 عاماً لتحقيق الاستقرار في المنطقة، بحسب الدكتور عبد العزيز صقر، رئيس مركز الخليج للأبحاث [1].

وقد أثار التطبيع ارتياحاً بين كافة دول المنطقة، باستثناء إسرائيل. ولعل أكثر ما يبعث على الأمل بالنسبة لممالك الخليج هو استثمار الصين باعتبارها قوّةً قادرة على المساهمة في بناء الثقة بين هاتين الدولتين، اللتين تعدّان شريكتيها الرئيسيتين في المنطقة.

وتتوقع الرياض من إيران أن تتحرك لتسهيل المصالحات الداخلية في اليمن واستخدام ثقلها لإقناع الحوثيين بإحلال سلامٍ دائم على حدود المملكة. كما تطمح في أن يساهم هذا التطبيع في تهدئة الأوضاع مع المليشيات الشيعية في العراق ومليشيات حزب الله في لبنان.

ومن ناحيتها، تتوقع الجمهورية الإسلامية، التي تواجه منذ سبتمبر/ أيلول 2022 احتجاجات شعبية بدأت بـ"ثورة النساء" ثم اتسع نطاقها ليشمل المناطق الكردية والبلوشية الواقعة على الأطراف حيث اتُهمت الرياض بتقديم الدعم لتلك المناطق ذات الأغلبية السنية، من السعودية عدم التدخل في شؤونها الداخلية، على غرار الدعم المالي الذي تقدّمه السعودية إلى منصة إعلامية إيرانية معارضة في لندن.

تلك الأدوات التي تمتلكها السعودية، في وقتٍ تعدّ فيه شرعية الجمهورية الإسلامية أضعف من أي وقتٍ مضى، يبدو أنها أعطتها ثقلاً لإقناع النظام الإيراني، الذي بات ضعيفاً على الصعيدين الداخلي والخارجي، بالتفاوض مع المملكة السعودية.

المسألة الأمنية في قلب المفاوضات

تُعدّ إعادة تفعيل القرار الأمني، الذي أُبرِم في 17 إبريل 2001 من دون أن يدخل حيّز النفاذ، دليلاً على التطوّر الذي حدث. وقد ترأس وفدَي البلدين في الأيام الأربعة التي سبقت إبرام الاتفاق مساعد العيبان، مستشار الأمن القومي بالمملكة السعودية، وعلي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وهما في أعلى هرم جهازي الأمن القومي بالبلدين، وذلك تحت رعاية وانغ وي، وزير الخارجية الصيني السابق (مارس/ آذار 2013 – ديسمبر/ كانون الأول 2022).

من ناحية واشنطن، يثير هذا الاتفاق قلقاً ملحوظاً نظراً لتشكُّكها في قدرة بكين على الاضطلاع بالدور الذي تنتظره منها الرياض، وهو إلزام طهران بالوفاء بالتزاماتها، وهو تشكّك نقلته كافة مؤسسات الفكر والرأي الأميركية.

لكن النجاح الدبلوماسي الذي حققته الصين أثار رد فعل أميركي لا يجب أن يُستهان به حتى ولو لم يلفت الانتباه. ففي 14 مارس الماضي، أي بعد أيام من صدور البيان السعودي الإيراني الصيني المشترك، صادق مجلس الشيوخ الأميركي على تعيين مايكل راتني سفيراً للولايات المتحدة بالرياض (مُستعرِب وخبير في شؤون الخليج وبلاد الشام). وكان هذا الأخير قد تم ترشيحه منذ عام في إبريل 2022، في حين ظل منصب السفير شاغراً منذ يناير 2021.


الأدوات التي تمتلكها السعودية أعطت ثقلاً لإقناع النظام الإيراني، الذي بات ضعيفاً، بالتفاوض معها

وترى الباحثة بمعهد كارنيجي ياسمين فاروق [2] أن الاتفاق الذي تم برعاية الصين لا يقتصر بالنسبة إلى السعودية على موازنة الوجود الأميركي، بل يعكس تفضيلاً لنهج بكين، القائم على ترجيح مبدأ إيجاد سبُل للتفاوض لحل النزاعات بين البلدين عوضاً عن اقتراح هيكل بديل للأمن العالمي مُعَدّ سلفاً.

ونجحت بكين في إقناع الرياض باستئناف التواصل مع طهران من دون فرض مسألة تخلّيها عن دعم الحوثيين كشرطٍ مسبَق. وتُعَد تصريحات المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني في 30 مارس الماضي عن عزم بلاده على التوصّل إلى سلامٍ عادل في اليمن بأي ثمن، غير مسبوقة في هذا الصدد.

ولكن، هل تتمكن إيران من إلزام حلفائها باحترام هذا الاتفاق الثلاثي؟ فلكل منهم أجندته الخاصة كما تُظهِر ردود الفعل السلبية لبعض المليشيات العراقية الموالية لإيران والحوثيين، الذين لطالما أكدوا استقلالهم عن طهران.

في المقابل، رحّب حزب الله اللبناني، حليف إيران التاريخي، على لسان أمينه العام حسن نصرالله، بالاتفاق، وصرّح بأنه سيعود بنتائج إيجابية فورية على لبنان واليمن.

إعادة إحياء المفاوضات حول الملف النووي؟

من ناحيتهما، أبدى الاتحاد الأوروبي وبريطانيا اهتماماً بالاتفاق، قد تنتج عنه إعادة إحياء المفاوضات حول الاتفاق النووي، وذلك في أعقاب زيارة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي لطهران في 3 مارس 2023، التي فتحت المجال لعودة مفتشي الوكالة لتفقُّد كافة المنشآت النووية الإيرانية.

هذا ما يشير إليه الاجتماع الذي تم بين المفاوض الإيراني حول الملف النووي علي باقري كني ومسؤولي المكاتب السياسية بوزارات خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بحضور مساعد الأمين العام لجهاز الخدمة الخارجية بالاتحاد الأوروبي إنريكي مورا. ويؤكد غياب المبعوث الأميركي الخاص لإيران روبرت مالي على الضيق الأميركي.

ويرى كاتب المقالات السعودي عبد العزيز الغشيان، المتابع للعلاقات السعودية الإسرائيلية، والذي شارك في قمة جدة في يوليو/ تموز 2022 التي حضرها الرئيس الأميركي جو بايدن ورؤساء دول مجلس التعاون الخليجي والأردن والعراق ومصر، أن السعودية أدركت في تلك المناسبة أن التطبيع مع إيران شرط أساسي لحدوث تطبيع مع إسرائيل في المستقبل، حتى وإن كان بشكل تدريجي.

في مواجهة مأزق الملف النووي، وجدت إدارة بايدن نفسها مجبرة على إقناع الرياض بالدخول في اتفاقيات أبراهام كجارتيها (أبوظبي والبحرين). وقد أثنى انسداد الأفق في ما يتعلق بإيجاد حل للقضية الفلسطينية الرياض عن الذهاب إلى ما هو أبعد من تقاربٍ غير رسمي، قد تستغله طهران لزعزعة استقرار الرياض. وهي ليست رؤية تل أبيب، التي كانت تعتزم تطبيع علاقاتها مع الرياض لتكوين جبهةٍ إسرائيلية عربية لمواجهة إيران.

ويؤكد مدير مركز "رصانة" السعودي للدراسات محمد السلمي على أهمية القضايا العديدة التي ناقشها السعوديون والإيرانيون في المباحثات التي تمت برعاية بغداد ومسقط منذ عامين. علاوةً على ذلك، قد يكون التوجّه الدبلوماسي الجديد للسعودية، الذي يعلي من الآن فصاعداً الدفاع عن مصالحها الوطنية على علاقاتها مع الولايات المتحدة، هو الذي أقنع إيران بإظهار قدرٍ أكبر من التعاون مع السعودية.


عبد العزيز الغشيان: السعودية مدركة أن التطبيع مع إيران شرط للتطبيع مع إسرائيل

لا شك أن عودة العلاقات السعودية الإيرانية تجد جذورها في الاتفاق الأمني لعام 2001، بيد أن الإشارة إلى الاتفاقية التجارية المبرمة في مايو 1998 في البيان الرسمي، وما أعقبها من تصريح وزير التجارة السعودي محمد الجدعان حول استعداد الرياض للاستثمار في علاقاتها التجارية مع إيران وتطويرها، يعكسان تغيّر المقاربة الدبلوماسية التي تعتزم الرياض انتهاجها في هذا التطبيع.

وفي الوقت الذي قرر فيه ولي العهد محمد بن سلمان طيّ صفحة العزلة التي فرِضَت عليه على خلفية قضية جمال خاشقجي، تظهر رغبة السعودية في إلحاق سياستها الدبلوماسية بركب عالم متعدد الأقطاب في طور التكوين، حتى تبرز كقوّةٍ إقليمية، متجاوزةً قوتها المستمدّة من هويتها الإسلامية.

وتراهن السعودية، بالتلويح لإيران برغبتها في ضخ استثمارات بالبلاد، على أن توطّد علاقاتها التجارية معها، وأن تجعل من الدينامية الاقتصادية العامل الأساسي لدوام التطبيع.

أحلام محمد بن سلمان

ويضع ولي العهد السعودي كل آماله على الدينامية الاقتصادية من أجل تحقيق توجهاته الدبلوماسية الجديدة، التي يطمح إلى بنائها على أساس اندماج إقليمي أفضل، وذلك بالاستثمار في البنى التحتية واللوجستيات والأمن الغذائي والتحوّل في مجال الطاقة، وكل ما يخص الأصول المشتركة والأمن الإنساني.

يبدو أن بن سلمان قد تعلّم من تجربة تدخّله العسكري الكارثي في اليمن عام 2015، ومن الأزمة التي وضعته في مواجهة مع قطر منذ عام 2017 على خطى مرشده السابق، رئيس الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد، والذي أصبح منافسه منذ ذلك الحين، فها هو حلم أن تصبح بلاده مركزاً اقتصادياً وتكنولوجياً وسياحياً في الشرق الأوسط يداعبه، كما يداعب جاره الإماراتي.

وهو يحلم بما هو أبعد من ذلك، إذ يرغب في جعل المملكة، من خلال "رؤية 2030" التي ترفع شعار "السعودية أولاً"، مركز غرب آسيا اللوجستي، نظراً للموقع الذي تتمتع به بلاده في قلب شبه الجزيرة العربية، بمساعدة الصين وطريق الحرير العزيز على الرئيس شي جين بينغ (مبادرة الحزام والطريق). ويقترن تحقيق تلك الأهداف بانتهاء الحرب في اليمن بدايةً، وتفادي أي مواجهة عسكرية محتملة بين إسرائيل وإيران.

هكذا يمكن فهم قرار السعودية بالانضمام في 29 مارس الماضي إلى منظمة شنغهاي للتعاون، التي تتزعمها بكين وموسكو، كـ"شريك في الحوار"، أو رغبتها في الانضمام إلى "بريكس" التي أفصحت عنها في مايو 2022، إلى جانب مصر وإندونيسيا والإمارات والسنغال والجزائر.

على المستوى الإقليمي، تتجلّى تلك الدينامية في الشراكات متعددة الأطراف والانفراجة التي شهدتها علاقاتها مع تركيا وإسرائيل وإيران وقطر، وكذلك التطبيع الوشيك مع سورية، والذي من المتوقع أن يتم الإعلان عنه قبل قمة جامعة الدول العربية المزمَع انعقادها في 19 مايو المقبل في الرياض.

ومثلما رعت الصين التطبيع مع إيران، سترعى روسيا التقارب مع سورية بعد أن تضمن قيام دمشق بمنع عمليات التصدير غير الشرعية لمخدر الكبتاغون الذي يغرِق السوق السعودية والخليجية.

وبهذا لا ترغب السعودية في معاداة الولايات المتحدة، فهي تواصل بالحماسة نفسها علاقاتها الاقتصادية مع كبرى الشركات الأميركية، مثل العقد المُبرَم في 14 مارس الماضي مع شركة "بوينغ"، والذي بلغت قيمته 37 مليار دولار، بالإضافة إلى العديد من عقود التسليح المبرَمة مع واشنطن في أعقاب زيارة بايدن للمملكة (15-16 يوليو 2022).

وقد حرصت الرياض في كل تصريحاتها الرسمية التي تلت توقيع الاتفاقية على طمأنة الشريك الأميركي، بتأكيدها على رغبتها في إيجاد توازن عادل بين القوّتين العظميين اللتين تتشارك معهما الرياض مصالحها غير المتعارضة رغم اختلافها.

يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar

[1] تم إجراء مقابلات مع جميع الباحثين المذكورين في المقال أثناء وجودنا في المملكة العربية السعودية ودول الخليج.

[2] "الدوافع السعودية وراء الاتفاق السعودي الإيراني".