برلسكوني يرحل مطمئناً... فاتح الأبواب أمام الشعبوية الأوروبية

سيلفيو برلسكوني يرحل مطمئناً... فاتح الأبواب أمام الشعبوية الأوروبية

13 يونيو 2023
برلسكوني يصوّت في الانتخابات الإقليمية بميلان، فبراير الماضي (بييرو كروسياتي/الأناضول)
+ الخط -

أخفق رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، سيلفيو برلسكوني، أمس الإثنين، في تحدي الوقت أكثر، كما كان يفعل دائماً في عالم السياسة، إذ رحل في مستشفى سان رافاييل بمدينة ميلانو، عن 86 عاماً، بعد رحلة مع المرض أفقدته القدرة على المناورة وانتهاز الفرص، وهي مقدرة تراجعت كثيراً لديه خلال السنوات الأخيرة في عالم السياسة، تماماً كمقدراته الصحية، بعدما طبعت حياته الصاخبة وتجربته السياسية وفضائحه المتكررة المشهد في إيطاليا لثلاثة عقود، والتي امتدت لخارجها أيضاً.

وبعيداً عن هذه الضوضاء، تسلّط وفاة برلسكوني الضوء مجدداً على شخصية هذا الرجل الجدلية في عالم السياسة والأعمال، حيث كرّست مزاوجتهما قبل عقود، لنمط جديد من السياسيين في أوروبا، بعيداً عن الثنائيات الحزبية التقليدية. وتفتح وفاته أسئلة حول مستقبل حزبه "فورزا إيطاليا" المنقسم، والذي انتقل من الطليعة إلى 8 في المائة فقط من الأصوات في الانتخابات الأخيرة العام الماضي، والتي شهدت تربع اليمين المتطرف على رأس السلطة، وكذلك حول ورثة إمبراطورية أعماله.

ولكن الأسئلة الأكثر أهمية التي تثيرها وفاته، تتعلق خصوصاً بإرثه السياسي، وتأثيره على السياسة الإيطالية والأوروبية ككل، خصوصاً أنه من بين الذين فتحوا الباب بشكل أو بآخر لتصعيد خطاب اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية، علماً أنه كرّس أيضاً نمطاً من "الانتهازية السياسية"، وعرف خصوصاً بصداقته للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهي صداقة تمسك بها حتى الرمق الأخير، فكان المدافع الدائم عن بوتين، حتى بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.

مزاوجة المال والسلطة في حياة برلسكوني

وكرّس وصول برلسكوني إلى رئاسة الحكومة الإيطالية للمرة الأولى في عام 1994، نمطاً للسياسي الآتي من عالم الأعمال، وهي وصفة "إنقاذ" تظلّ ممكنة وجذّابة للكثير من شعوب العالم، خصوصاً إذا ما كانت بلدانها متعثرة اقتصادياً، كحال إيطاليا حينها.

قاد برلسكوني 4 حكومات إيطالية، من 1994 حتى 2011

وإذ تكرّرت هذه التجربة في دول أخرى، بقي برلسكوني، الجامع بين الحنكة في السياسة وإدارة الأعمال، وبين حسّ الدعابة وصولاً إلى الوقاحة، وبين قدرته على تطويع السلطة لصالحه وحمايةً لمصالحه، فضلاً عن كمّ الفضائح الذي طبع مسيرته السياسية، النموذج الأكثر سطوعاً لهذا النوع من السياسيين، المُلاحق من القضاء الإيطالي حتى الرمق الأخير، من دون أن يفقده ذلك "النجومية" التي أراد برلسكوني دائماً الاحتفاظ بها، حتى ولو اضطر إلى الخضوع لعمليات تجميل. كما كرّس وصوله إلى السلطة نمطاً من الشعبوية السياسية، سبقت بوقت طويل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أو بوريس جونسون في لندن، أو فيكتور أوربان في المجر، أو ماتيو سالفيني في إيطاليا.

واستقر الرأي دائماً في إيطاليا، على اعتبار الرجل الثري، أو "عجوز السياسة الإيطالية" (الذي جذب الإيطاليين بداية لكونه عصامياً بنى إمبراطوريته من الصفر)، "مغامراً" على مستويات عدة، فيما كشف دخوله عالم السياسة الإيطالية ومسيرته صحة تسميته بمقتنص الفرص، أو بلغة السياسة المؤدلجة، "انتهازياً" من الطراز الأول.

الانتهازي والمغامر

وترافق صعود برلسكوني إلى السلطة في بداية تسعينيات القرن الماضي، مع وضع كان وصل فيه النظام السياسي في إيطاليا إلى حافة الانهيار، حيث ضربت الرشوة والمحسوبيات والفساد سمعة معظم الأحزاب السياسية، وهو فساد منهجي ظلّ متحكماً بعمل الطبقة السياسية في هذا البلد الصناعي الأوروبي لعقود، والذي عاش منذ أولى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، عدم استقرار سياسي متواصل، مع تبديل الحكومات كل عام تقريباً.

ومن هذا الباب، وجد برلسكوني الفرصة سانحة في بداية التسعينيات، لولوج عالم السياسة، وافداً من عالم الأعمال، ولـ"إظهار حبّ إيطاليا"، كما كان يردّد (قال لاحقاً في مقابلة عام 2016 إنه اقتحم الحياة السياسية الإيطالية لإنقاذها من اليسار).

في عام 2011، كتب إيريك ليمان، على موقع إذاعة "ذا وورلد" الأميركي، أنه "لفهم برلسكوني، عليك أن تنظر إلى عرّابه بيتينو كراكسي"، رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق في ثمانينيات القرن الماضي (عن الحزب الاشتراكي)، الذي حمى أعمال برلسكوني، فيما سخّر له الأخير إعلامه وأعماله التي نمت بشكل مطرد في عهده. وحين رأى برلسكوني قرب سقوط "عرّابه" بفضائح الفساد التي لاحقته، قرّر أن يخوض غمار السياسة بنفسه (ذكر التقرير أن الرجلين تشابها بالفضائح التي لاحقتهما، لكن بينما أدين الأول فإن برلسكوني – في ذلك التاريخ – نجا وتمسك بعدم الإقرار بالتهم الموجهة إليه).

وأنشأ برلسكوني، عام 1993، حزب "فورزا إيطاليا" (يمين الوسط، والاسم مستمد من هتاف شعبي لكرة القدم "هيا إيطاليا")، والذي تصدر الانتخابات التشريعية في مارس/آذار 1994، ليصبح برلسكوني رئيساً للوزراء للمرة الأولى. حينها، صدّق الشارع الإيطالي، الساخط على الطبقة السياسية، شعارات رجل الأعمال والمال والإعلام، وتقديمه لنفسه كـ"سياسي غير تقليدي"، رافعاً إياه من مرتبة ملك الرفاهية (استحواذه على 50 في المائة من حصة الإعلام المحلي وملكيته لنادي إي سي ميلان الرياضي مثالاً)، إلى زعيم سياسي قد يحوّل حياتهم إلى الأفضل، بل قادر على تحويل أي شيء يلمسه إلى ذهب، بناء على سيرته الذاتية.

سيرة ذاتية لرجل "إنقاذ"

فمن مغن على متن سفينة سياحية، قفز برلسكوني إلى مرتبة أغنى رجل في إيطاليا، واعتبرت قصة نجاحه مُلهمة للإيطاليين الذين كانوا يعيشون ظروفاً اقتصادية صعبة، فيما كانت إمبراطوريته الإعلامية ووسائل دعايته تروّج لرحلته مع نجاح فريقه لكرة القدم في المحافظة على مكانته في الدرجة الأولى، باعتبار ذلك مثالاً حيّاً على قلب الخسائر إلى نجاحات.

واستخدم برلكسوني، طوال فترات حكمه، أمواله الخاصة لخلق هياكل تؤيده وتؤيد حزبه، وانخرط معجبوه في تقديمه على أنه "جزء من العائلة"، أي العائلة الإيطالية. محطاته التلفزيونية المتعددة، ومن بينها "كانال 5" و"إيطاليا 1" و"ريتي4"، و"بانوراما"، فضلاً عن امتلاكه أكبر دار نشر للكتب في إيطاليا، "ماندادوري"، ساهمت مع غيرها من التحركات، في صناعة هالة حول "الرئيس"، بالتزامن مع الحملة الإعلامية التي وضعته في مصاف "قديس منقذ"، في بلد تنتشر فيه الكاثوليكية كإيمان، وليس كتقليد.

لكن حكومة برلسكوني الأولى لم تصمد سوى ثمانية أشهر، بعد تراجع حليف "فوزرا إيطاليا"، حزب "رابطة الشمال" عن دعمه (وإدانة برلسكوني بقضية تهرب ضريبي)، وتحول "فورزا إيطاليا" سريعاً إلى المعارضة في عهد حكومة لامبرتو ديني "التكنوقراطية"، حتى استقالة الأخير في 1996. في ذلك العام، خسر برلسكوني الانتخابات بمواجهة خصمه اللدود، رومانو برودي، وبدأ يغرق في سلسلة من الفضائح المالية، بما فيها قضايا رشوة. نفى برلسكوني التهم الموجهة إليه، وتمّت تبرئته بعد الاستئناف.

لاحقت الفضائح الجنسية وقضايا التهرب الضريبي برلسكوني

عاد دولاب الحظ ليعمل مع زعيم "فورزا إيطاليا" في عام 2001، حين شكّل حكومتيه الثانية والثالثة، واللتين بقيتا تعملان كأطول حكومة برئاسة واحدة بعد الحرب العالمية الثانية حتى 2006 حين أنهى ولايتها برودي مجدداً.

عاد برلسكوني للسلطة في 2008، على رأس حكومة جديدة حتى عام 2011. في ذلك العام، جاء رحيل الرجل الذي أطلق على نفسه اسم "الفارس" (كافاليير)، عن رئاسة الحكومة، بعدما تزامنت أزمة الدين في منطقة اليورو، مع خسارته الأكثرية في البرلمان إثر انقسام حزبه، فضلاً عن انكشاف تفاصيل فضيحة حفلات "بونغا بونغا" الجنسية في مقر إقامته الخاص. وجاء رحيله من مقر رئاسة الحكومة في روما وسط هتافات للمتظاهرين للاحتفال بهذا الرحيل.

قبل ذلك بعام، تلقى برلسكوني صفعة قوية عندما قضت المحكمة الدستورية في إيطاليا، بأن القانون الذي يمنح رئيس الوزراء الحصانة من المساءلة القانونية يخالف الدستور، ليحكم على برلسكوني في عام 2012 بالسجن 4 سنوات، بسبب قضية تهرب ضريبي، وبالمنع من الترشح أو تسلم منصب رسمي. ولم يدخل برلسكوني السجن (كان يبلغ 75 عاماً حينها)، بل عمل على مساعدة مرضى في مركز كاثوليكي في ميلان التي يتحدر منها. لكن في العام التالي، تكشفت أيضاً فصول فضيحة أخرى، تتعلق بدفعه أموالاً لمراهقة مقابل الجنس، ولم يدن برلسكوني في القضية، فيما كانت زوجته الثانية فيرونيكا لارا (والدة ثلاثة من أبنائه الخمسة) قد هجرته بسبب إحدى تلك الفضائح.

صديق بوتين

في عمر الـ81 عاماً، وبعد 18 شهراً فقط من إجرائه عملية قلب مفتوح، خاض برلسكوني وحزبه في عام 2018، الانتخابات مجدداً، وأبلى بلاء حسناً، لكن حزب ماتيو سالفيني (الرابطة) المشكك بأوروبا هزمه. وفاز برلسكوني بمقعد في البرلمان الأوروبي عام 2019. والعام الماضي، تمكن حزبه من البقاء في البرلمان، بعد إبرامه تحالفاً مع اليمين المتطرف بزعامة (رئيسة الوزراء الحالية) جورجيا ميلوني، وحزبها الفاشي.

وأظهر برلسكوني، منذ وصول ميلوني إلى السلطة أنه حليف محرج لها أمام أوروبا، إذ لم يتوقف عن مدح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (سرّبت له تسجيلات صوتية قال في جزء منها إن بوتين أرسل له 20 زجاجة فودكا ورسالة لطيفة بمناسبة عيد ميلاده)، وإلقاء اللوم على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في الحرب الدائرة في أوكرانيا.

ونعى بوتين، أمس، رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، واصفاً إياه بأنه كان صديقاً عزيزاً وسياسياً بارزاً. وقال بوتين في رسالة تعزية: "لطالما كنت معجباً حقاً بحكمته وقدرته على اتخاذ قرارات متوازنة وبعيدة النظر حتى في أصعب المواقف"، مضيفاً أن "روسيا ستتذكر برلسكوني على أنه كان داعماً قوياً وصاحب مبدأ لتعزيز العلاقات الودية بين بلدينا". وفي مقابلة مع محطة تلفزيونية روسية أمس، قال بوتين إن برلسكوني كان "سياسياً من الطراز العالمي"، معتبراً أنه "يوجد عدد قليل من هؤلاء الأشخاص على الساحة الدولية الآن"، مشيراً إلى دور برلسكوني في إقامة حوار بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.

وفي معرض نعيه، قالت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني أمس: "قاتلنا وفزنا وخسرنا العديد من المعارك معه"، فيما اعتبر وزير الدفاع غويدو كروسيتو أن وفاة برلسكوني "بمثابة نهاية حقبة". ووصفه نائب رئيسة الوزراء ماتيو سالفيني في بأنه كان "رجلاً عظيماً وإيطالياً عظيماً".