لماذا لا يتزحزح بايدن عن تهاونه مع نتنياهو بشأن العدوان في غزة؟

لماذا لا يتزحزح بايدن عن تهاونه مع نتنياهو بشأن العدوان في غزة؟

02 مارس 2024
"ضعف" بايدن القيادي تبدّى بأوضح ما يكون في الحرب على غزة (Getty)
+ الخط -

أخيراً وبعد أشهر من عرقلة إسرائيل لدخول المواد الغذائية إلى قطاع غزة، وبعد مجزرة ارتكبتها قوات الاحتلال في شارع الرشيد قبل يومين وحصدت مئات القتلى والجرحى من جوعى غزة، تذكّر الرئيس الأميركي جو بايدن أن بإمكان الولايات المتحدة القيام بعملية إنزال جوي للمعونات الإنسانية في القطاع، التي يواجه حوالي نصف أهلها خطر المجاعة.

كان في استطاعة إدارة بايدن استباق مثل هذه الجريمة لو عملت على وقف تدهور الأوضاع الإنسانية في القطاع، والتي كانت مقدماته أوضح من شمس النهار وباعتراف الإدارة نفسها. كان بوسعها ردع إسرائيل أو الالتفاف على عراقيلها بإجراء مانع مثل رفع العلم الأميركي على الشاحنات التي تحمل المساعدات لتأمين عبورها الحدود بانتظام مع تأمين آلية فعالة لتوزيعها، كما سبق أن رُفع على ناقلات النفط العراقية أثناء الحرب مع إيران، لحمايتها في مياه الخليج. خصوصاً أن واشنطن كانت على دراية بنوايا إسرائيل لتجويع الغزيّين كوسيلة لتفريغ القطاع.

بل إن الإدارة الأميركية سكتت عملياً عن العوائق التي زرعتها الحكومة الإسرائيلية في طريق قوافل التموين لتعطيل أو تأخير وصول حتى ما دون الحد الأدنى منها، وذلك بذرائع أمنية اشتكت من افتعالها الأمم المتحدة، كما اشتكى منها مندوب الإدارة نفسه دافيد ساترفيلد.

لا جدال في أن خطوة الإنزال الجوي جاءت لاحتواء أجواء استفظاع المجزرة. قررها الرئيس بعد أكثر من 24 ساعة على الحادثة، وبعد أن بدت الإدارة متواطئة في وضع قاد إلى فجور دموي لم تقو حتى الجهات الأميركية التي تلعب عادة دور الدرع الواقي لإسرائيل على قبوله، فضلاً عن الدفاع عنه. وفي كل حال أتت متأخرة وأقرب إلى رفع العتب.

وفي أحسن أحوالها هي منذ البداية معطوبة طالما أن هطول المعونات من الجو سيتبعه أو يسبقه هطول القنابل والصواريخ الأميركية على الغزيين. وكأن من يسلم من الجوع تتكفل به نيران الجو والأرض. ومرة أخرى أبدت أوساط عديدة دهشتها من تردد الرئيس وعدم تزحزحه عن إدمانه على سياسة التساهل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته، رغم إعرابه أحياناً عن "الضيق" من ممارساتها. تناقض يعزى إلى خليط من الأسباب الشخصية والانتخابية والاستراتيجية.

"ضعف" بايدن القيادي تبدّى بأوضح ما يكون في الحرب على غزة وبات حديث الدوائر المعنية بشؤون السياسة الخارجية. تراجعاته أمام نتنياهو بدّلت المواقع والأدوار بين التابع والمتبوع. مرجعيات وجهات وأوساط مقربة منه ومن إسرائيل، ما برحت تحثه على الحسم مع نتنياهو وإجباره على الهدنة ووقف النار المؤقت، في أقله، على أن يتحول إلى وقف نهائي للحرب. لكنه لم يفعل. يلوّح بذلك ثم ينكفئ. المجزرة كانت فرصة لاسترداد المبادرة. بدلاً من ذلك اكتفى بخطوة الإنزال. وبدلاً من توظيف اللحظة الراهنة لتسريع مفاوضات الأسرى والهدنة، اعترف بأن الاتفاق سيتأخر.

"ضعف" بايدن القيادي، تبدّى بأوضح ما يكون في الحرب على غزة

تضاف إلى ذلك حساباته الانتخابية. حملته متعثرة. تأخذ بعض الزخم من صعوبات ترامب القضائية ومن تراجع مفاجئ لتأييد هذا الأخير في أوساط الجمهوريين التقليديين، كما كشفت انتخابات التصفية الحزبية في أربع ولايات حتى الآن. انعكس ذلك في حجم الأصوات التي انصبت لصالح منافسته نيكي هايلي، والتي جاورت حصتها ثلث الذين شاركوا فيها، مع إقبال ضعيف ساهم في خفض شعبية ترامب.

ولذلك يحرص بايدن على عدم منح خصمه أي فرصة لتوظيف ورقة مثل إسرائيل ضده، مع أن ذلك احتمال مبالغ فيه، إذ إن القابلية للحرب وتكاليفها ضعيفة في الكونغرس وحتى في أوساط الجمهوريين. فحتى الآن لم يوافق الكونغرس، وبالتحديد مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون، على تخصيص 14 مليار دولار كمساعدة لإسرائيل في حربها على غزة. وثمة اقتراح متداول لإقرار المساعدات العسكرية لكل من إسرائيل وأوكرانيا، كقروض ميسّرة وليس كمنحة، على أساس أنهما من البلدان الغنية بالموارد والإمكانات.

التفسير الثالث لعدم تزحزح بايدن عن تهاونه مع نتنياهو هو أنه قرر المضي بحل الدولتين، الذي يحتاج إلى تسويقه في إسرائيل، وبالتالي عدم الاصطدام مع نتنياهو. ولم يهبط هذا التوجه كصحوة ضمير على حقوق الشعب الفلسطيني، بل جاء على إثر 7 أكتوبر، الذي يبدو أن واشنطن تعاملت معه كتحول استراتيجي كشف عن محدودية قدرات إسرائيل في مثل هذه المواجهات، التي اضطرت أميركا لتلعب دور خط الدفاع الأول عنها. ولضمان عدم تكرار أحداث من هذا النوع وبهذه الخطورة، طرحت الإدارة إحياء خيار الدولتين علّه يكون السبيل لاستدامة أمنية في المنطقة، ترى إدارة بايدن أن إسرائيل ستكون المستفيد الأهم في ظلها.

ومن هنا إصرار الإدارة الأميركية على هذا التوجه رغم استبعاد كثيرين من العارفين بحقائق الأمور على الأرض إمكانية ترجمة حل كهذا على الأقل في الأمد المنظور. ومنهم من يعتبره مجرد وهم، ولو أن الغالبية من بينهم ترى أنه "لا بديل عن حلّ الدولتين، ولو أنه أسوأ الخيارات".

 بايدن يراهن على هذا المناخ المساعد في أوساط النخب السياسية والفكرية واليهودية الأميركية، ليدفع بمشروعه لو فاز بولاية ثانية. لكن من شروط الدفع في هذا الاتجاه أن تنجح واشنطن في كبح الانفلات الإسرائيلي الراهن. لكن حتى الآن نتنياهو في مقعد القيادة. ورد الرئيس بايدن الرخو على المجزرة دليل آخر.