مآلات هبّة الكرامة الفلسطينية.. تعزيز الأبارتهايد أم دولة المواطنين؟

مآلات هبّة الكرامة الفلسطينية.. تعزيز دولة الأبارتهايد أم دولة المواطنين؟

28 مايو 2022
هبات جديدة متوقعة (ماتي ميليستين/Getty)
+ الخط -

لم تكن هبّة الكرامة الفلسطينية حدثًا عابرًا في سجلّ التاريخ الفلسطيني، إذ جَمَعت الكثير من الخلفيات والدلالات وحرّكت الشارع الفلسطيني العام، وخصوصًا في أوساط فلسطينيي الداخل.

سنتناول في هذه المقالة السبب المباشر والأسباب غير المباشرة التي أدّت إلى وقوعها. كذلك، سنُولي اهتمامًا مُكثّفًا على دلالاتها وما يمكن أنْ تَحْمِلَهُ من مخزونٍ معرفي ونضالي مستقبلاً.

كانت أحداثُ حيّ الشيخ جرّاح في القدس، واقتحامات المستوطنين تحت حماية عناصر الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى المبارك والعدوان المستمر على غزّة رزمة واحدة شكلت السبب المباشر لاندلاع الهبّة في عددٍ كبيرٍ من المدن والبلدات الفلسطينية في الداخل بوجهٍ خاص، وأبرزُها في هذه المرّة المدن الساحلية كعكا وحيفا ويافا واللد. وما جرى في الشيخ جرّاح من محاولات اقتلاع لسكانه الفلسطينيين وإحلال مستوطنين ضمن مخطط تهويد القدس وتغيير هويتها العربية الفلسطينية أحد أبرز الأسباب المُحرِّكة لحِرَاكات التضامن التي تنظّمت بصورة عفوية في المدن أعلاه وغيرها.

لكن، بموازاةِ هذا السبب هناك أسبابٌ عديدة جديرة بأنْ نستعرِضها لِكونِها تُشكّل مادّةً رئيسة للدلالات والرؤى المستقبلية لهذه الهبّة. فالعدوان على غزّة من حصارٍ وقصف وقتل وتضييق اقتصادي حتى التجويع، وتدمير مبان وبُنى تحتية وسط صمت عربي ودولي مُطبق لم تشهده أزمنة سابقة، فيه الكثير من مخزون الانتفاض على الواقع المُرّ. ويبدو أنّ غيمة غزّة والقدس تأبى إلا أنْ تبقى مُظلِّلة الأجواء الفلسطينية في أيّ مكان كانت. 

أمّا على الصعيد فلسطينيي الداخل الذين لم يوفروا مناسبة إلا ودعموا غزّة في مواجهتها للعدوان المشار إليه أعلاه، فإنّ مجموعةً من الأسبابِ ساهمت في تحريك الشارع العام للتعبير عن غضب عارمٍ تجاه سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة والمتراكمة تجاههم. فسياساتُ التمييز على مختلف أشكالها وألوانها تزداد حِدّةً يومًا بعد آخر في قطاعات التعليم والخدمات الصحية والثقافية والاجتماعية. والفجوات الحياتية بين الفلسطينيين في الداخل واليهود آخذة بالاتساع بصورة تؤكد سير إسرائيل المتواصل نحو دولة الأبارتهايد. إلى جانب ذلك تجنُّد آلة الإعلام الإسرائيلية للتغطية على سياسات الحكومة وتشويه الحقائق، إضافة إلى شيطنة الفلسطينيين في الداخل وتصويرهم بمخالفي القوانين ومتجاوزي الأعراف وغيرها من الصور النمطية التي تنشرها بين الفينة والأخرى. وتجنُّد هذه الآلة ليس صدفة، فالإعلام الإسرائيلي برمَّته خاضعٌ لأجندات سياسية وأمنية صهيوإسرائيلية لدرجة إنكار وجود الشعب الفلسطيني، وإقصائه عن مِنصّات الإعلام وعن المُشاركة في نشاطات الحيّز الحياتي العام. 

تستعين إسرائيل بالمتطرفين لتهديد حياة واستقرار الفلسطينيين في الداخل

هذه الأسباب، وهناك غيرها، كانت النار التي أشعلت فتيل هبّة الكرامة في أيّار 2021 في المدن الفلسطينية الساحلية بوجهٍ خاص للتصدّي لهجمات المستوطنين وعناصر من الحركات والتنظيمات التوراتية المدعومة من المؤسسة السياسية سواء الحكومية أو الحزبية الإسرائيلية، كذلك صمت معظم السلطات البلدية المحلية عن مواجهة هجمات واعتداءات المستوطنين والحركات الدينية اليهودية المُتزمتة في المدن الساحلية، ما خلق شعورًا، بل معرفةً مثبتة بأنّ هناك تنسيقا بين الحكومة والبلديات بغطاءِ الشرطة وقِوى الأمن الإسرائيلية كالجيش في دخول المدن واستخدام العنف المُفْرِط والقُوّة الحديدية ضد المواطنين الفلسطينيين الذين خرجوا إلى الشوارع والحارات للتظاهر دعمًا لحيّ الشيخ جرّاح ونُصرّة للأقصى بالمفهومين السياسي والديني، وتعبيرًا عن غضبهم من سياسات الحكومة والسلطات البلدية. 

لا شكَ أنّه بعد مرور سنةٍ على هذه الهبّة فإنّ من سِماتها أنّها قضّت مضاجع حكومة إسرائيل وبيّنت رُزمةً من تخوفاتها وقلقها من عِدّة ظواهر رافقت التحرُّك الحياتي لفلسطينيي الداخل، كان أبرزها عودة العامل الديمغرافي إلى الطفو على السطح. فالمدنُ الساحلية كحيفا واللد بوجه خاص تشهد هجرة يهودية سلبية لصالح هجرة عربية وزيادة سكانية إيجابية منذ أكثر من عقد من الزمن. وهذا العامل القديم – الجديد دفع الحكومة إلى مواجهته بواسطة استخدام أدوات قمعية جديدة، أبرزُها جماعات مستوطنين متدينين بوجه خاص حاملي عقائد دينية وسياسية متطرفة جدًّا للاعتداء على الفلسطينيين في أحيائهم السكنية تحت مِظلّة حراسة الشرطة. وترافق ذلك مع استعداد الأحياء العربية في المدن الساحلية لمواجهة هجمات المتطرفين وسط غياب السلطات البلدية، أو بكلمةٍ أخرى تواطؤها الفاضح مع هذه الحملة المسعورة. وهنا نفّذت الشرطة الإسرائيلية اعتقالات لمئات من الشباب من منطلق الترهيب والتخويف وإلصاق تهم أمنيّة ببعض منهم، عِلمًا أنّ تصديهم لهجمات المتطرفين كان ضمن سياقات جنائية إذا اعتبرناها كذلك، وهي في الأساس دفاعا عن النفس.
ماذا يُمكننا أنْ نتعلّم من الحراك الشعبي لفلسطينيي الداخل في هبّة الكرامة وما تلاها؟
أوّلاً: الهبّة هي حِراكٌ شعبي من شباب وكبار أيضًا ضد سياسة حكومة إسرائيل بشكل عام، وضد الأوضاع المعيشية لفلسطينيي مدن الساحل، وأبرزها أزمات السكن، وتضاؤل فرص العمل، وتصفية الموروث العِمراني الفلسطيني في السوق العقاري الإسرائيلي لصالح مستثمرين من حيتان المال من اليهود، وبالتالي هدم مبان تاريخية وإقامة أحياءٍ إسرائيلية جديدة على أنقاض العربية.
ثانيًا: تراجع دَور الأحزاب كعنوان ومِظلّة للنضال من أجل المساواة والحقوق المدنية والوطنية. لم تعُدْ الحراكات الشبابية تقبل بسقف محدود من النضال أو المطالبة بفتات من المساواة. إلى جانب توجيه رسالة واضحة إلى القيادات السياسية والحزبية في الداخل الفلسطيني ولدى سلطة رام الله، أنّ النضال الجديد قد نزع عنه ثوبَ الدهاليز لينتقِلَ إلى الشارع العام. ولا بُدّ من الإشارةِ هنا إلى بروز الظاهرة الشبابية التي استولت على كلّ المشهد في الداخل الفلسطيني. وهذا في حدّ ذاتِهِ تأكيدٌ على حيوية الشعب الفلسطيني وتعاطيه مع شؤونه السياسية.
ثالثًا: هشاشة وترهل فكرة التعايش بين اليهود والعرب والتي عمِلت حكومات إسرائيل منذ تأسيسها على الترويج لها أو التلويح بها من مُنطلقِ قبول إسرائيل كدولة ديمقراطية وعصرية. في الوقت ذاته بقيت الأحياء العربية في المدن الساحلية تُعاني من المشاكل الصعبة والتي لم تجِدْ طريقها إلى الحلّ حتّى أيامنا هذه.
رابعًا: نجاح الهبّة في توحيد الفلسطينيين أوّلاً في فلسطين التاريخية والجغرافية، وكذلك في فلسطين اللجوء والشتات تحت رايةٍ واحدة وهي أنّ الرواية الفلسطينية لا يمكن تجزئتها بالمرّة. وأنّ هذه الوحدة ترفض الهيمنة الإسرائيلية في فلسطين بكافة أشكالها. بل تدعو إلى المساواة التامّة ما يؤكد فكرة الدولة الواحدة الديمقراطية التي تُقصي دولة الأبارتهايد. وهذا في جوهره طرح مشروع حل الصراع بعد فشل كلّ المشاريع وفي مُقدِّمتها مشروع حلّ الدولتين.
خامسًا: أبرزت الهبّة أنّ الصراع ليس تاريخيًا على الحدود فقط، إنّما على الحقّ في هُويّة وملكيّة المكان الجغرافي بما يحتويه من مخزون تاريخي وحضاري واقتصادي مُتراكم. فالصراع في المدن المختلطة على هويتها الحالية والمستقبلية بعد أنْ أبيد معظمها في العام 1948 وما تلاه من عقود من الاحتلال الإسرائيلي، وإعمال مِعول الهدم والتشويه فيها. الصراع هنا على هُويّة المكان وهُويّة الإنسان في المكان كجزء من مشروع إعادة تشكيل هُويّة المدينة الفلسطينية التي طهرها عرقيًا المشروع الصهيوني لتصفية أيّ محاولة نمو وازدهار.
سادسًا: استمرار حكومة إسرائيل في بذل كلّ الطرق والسُّبل للحفاظ على أغلبية يهودية في هذه المدن، ولأنّها لم تستطعْ توقيف الهجرة اليهودية السلبية منها فإنّها تستعين بالقيادات الدينية الاستيطانية. فالمستوطنون أداة قمعية متنقلة ومُتحرّكة، تستخدمها إسرائيل لترويع الفلسطينيين كما هو الحال في الضفة الغربية المحتلة. فتمّ توطينهم في اللد وكذلك في حيفا، ومحاولات جادّة في عكا.
سابعًا: بيّنت هبّة الكرامة أنّ سُلطات الحكم المحلي - البلديات ليست مستقلة، بل ليست خارج سياسات التضييق والتعطيل لنمو وتطور المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل.
ثامنًا: استمرار وإصرار الفلسطينيين في الداخل على ربط وضعهم ومصيرهم مع إخوانهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة من 1967. وهنا في هذه النقطة تحديدًا عودة إلى المربّع الأول ألا وهو نكبة 1948.

وماذا بعد الهبّة؟

بالرغم من الوقفات الثابتة والواضحة لفلسطينيي الداخل تُجاه سياسات حكومة إسرائيل، فإنّ هذه الحكومة مُستمرة في التضييق والتربُّص والتحريض ضد المواطنين العرب، متمثلاً بالإهمال في كلّ المجالات لدرجة الفوضى.
وبالرّغم من الأصوات التي انطلقت من أطراف فلسطينية وحتى إسرائيلية بضرورة وضع خطة إشفاء وإصلاحات شاملة للمجتمع الفلسطيني في الداخل، فإنّ هذه الحكومة مستمرةٌ في الاعتقالات وتوجيه لوائح اتهام ضد شباب كثر. وزيادة مُطّردة في عمليات هدم المنازل العربية بذرائع عدم الترخيص وغيرها من السياسات القمعية.
إلاّ أنّه من الثابت أنّ استمرار سياسات القمع بأدوات مختلفة لن تثني الفلسطينيين في الداخل عن توقّع هبّات أخرى يُعَبِّرون من خلالِها عن تضامنهم مع شعبهم باعتبار فلسطين قضية واحدة، إلى جانب مطالباتهم المُستمرة بالمساواة التّامّة. وهنا يندمج الشأن الوطني مع الشأن المدني ليس من قبيل الاكتفاء بفُتاتٍ في الميزانيات إنّما على قاعدة دفع إسرائيل تدريجيًا نحو طريق واحد وصولاً إلى الدولة الواحدة لكلّ مُواطنيها. إنّه حلم حاليًّا يراوح مكانه، لكنه حاضر، وإمكانية تحقيقه ليست بالمنظور القريب.
 

المساهمون