دومينو كتالونيا يضرب فرنسا في كورسيكا

دومينو كتالونيا يضرب فرنسا في كورسيكا

25 ديسمبر 2015
ينذر الملف الكورسيكي بالتحول إلى قنبلة سياسية(باسكال كزابيانكا/فرانس برس)
+ الخط -
في غمرة الانشغال الفرنسي بتداعيات اعتداءات 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وصعود اليمين المتطرف في انتخابات مجالس المناطق، لم تهتم وسائل الإعلام الفرنسية والأجنبية كثيراً بثورة "ناعمة" ومفاجئة اجتاحت جزيرة كورسيكا (جنوب فرنسا)، تمثّلت في نجاح القوميين للمرّة الأولى، منذ إنشاء البرلمان الكورسيكي عام 1982. واستطاع القوميون انتزاع غالبية المقاعد، ما سيمكّنهم من ممارسة السلطة التنفيذية عبر حكومة محلية مصغّرة، وهو المعطى الجديد الذي يثير توجّساً كبيراً في أوساط الحكومة الاشتراكية. وتخشى هذه الأخيرة من نزوع الغالبية القومية للمطالبة بالاستقلال والانفصال عن الحكومة المركزية إسوة بإقليم كتالونيا الإسباني.

وفي 17 ديسمبر/كانون الأول الحالي، تم انتخاب المثقّف، الناشط الاستقلالي جان غي تالاموني رئيساً للبرلمان الكورسيكي في أجواء وطقوس غير مسبوقة، إذ ألقى تالاموني خطابه الافتتاحي باللغة الكورسيكية، مشيداً بنجاح القوميين الذين "لم يقبلوا أبداً بالوصاية الفرنسية على الجزيرة. وناضلوا منذ مئات السنين من أجل أمة كورسيكية حرّة ومستقلة". ووعد رئيس البرلمان بتشكيل أول حكومة وطنية منذ القرن الثامن عشر، تاريخ إلحاق الجزيرة بالدولة الفرنسية.

ودعا تالاموني إلى المنصّة الشرفية والدة الناشط القومي الراحل، جان باتيست آكوافيفا، وهو من زعامات "الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا" المحظورة. تحوّل إلى شهيد في عرف "الجبهة" بعد اغتياله عام 1987. وقام تالاموني بتوجيه تحية خاصة إلى "شهيد القضية الكورسيكية". وتحت عاصفة من التصفيق، وجّه نداء إلى الحكومة الاشتراكية للعفو عن المعتقلين السياسيين ووقف ملاحقة الناشطين القوميين. ثم سلّم الكلمة إلى رفيقه جيل سيموني الذي صار الرئيس الجديد للمجلس التنفيذي لكورسيكا بفضل غالبية مريحة.

وألقى هذا الأخير خطاباً نارياً باللغة الوطنية، مبّشراً فيه بمرحلة جديدة في تاريخ كورسيكا. واعتبر أنّ "استقلال كورسيكا يمرّ بالضرورة عبر علاقة جديدة بين الجزيرة والدولة الفرنسية". وحذّر السلطات المركزية، "أقول لباريس وللدولة، عليكم أن تدركوا طبيعة وحجم الثورة الديمقراطية التي تعيشها كورسيكا الآن. عليكم أن تفهموا أن الشروط صارت كلها مؤاتية لفتح فصل جديد في تاريخ الجزيرة". واختتمت مراسم الجلسة الافتتاحية بوقوف كل الحاضرين وأداء جماعي للنشيد القومي الكورسيكي "ديو في سالفي ريجينا" في أجواء حماسية ملتهبة.

وأثارت هذه الجلسة الافتتاحية ورسائلها القوية والاستثنائية امتعاضاً كبيراً في باريس، خصوصاً في أوساط الحزب الاشتراكي الحاكم، وأيضاً لدى المعارضة اليمينية المحافظة التي تعارض مبدأ الاستقلال وانفصال الجزيرة عن الدولة الفرنسية.

اقرأ أيضاً: أحزاب الجبهة الجمهورية تهزم اليمين المتطرف بانتخابات المناطق الفرنسية

وصارت كورسيكا تمثّل قضية إشكالية للحكومة وجبهة إضافية ليست أقل إحراجاً من الصعود المدوي لحزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف، ذلك أن القوميين المتشددين في كورسيكا وصلوا إلى السلطة التنفيذية عبر صناديق الاقتراع، واكتسبوا شرعية ديمقراطية لا غبار عليها.

وبعد صمت دام أسبوعاً كاملاً، بادر رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، الأربعاء الماضي إلى الرد على القوميين الكورسيكيين، مشدداً على أن هناك "خطوطا حمراء لا يمكن مناقشتها". ونفى فالس وجود معتقلين سياسيين كورسيكيين في السجون الفرنسية، متشبّثاً بالتعامل الرسمي للدولة الفرنسية مع الناشطين القوميين من "الجبهة الشعبية لتحرير كورسيكا" الذين حملوا السلاح ضد الدولة، والذين يُعتبرون إما ارهابيين أو سجناء حق عام.

وفي ما يخصّ اللغة الوطنية الكورسيكية التي يرغب القوميون في جعلها لغة رسمية في الجزيرة، قال فالس، "هناك لغة واحدة في الجمهورية وهي الفرنسية". أمّا بالنسبة لمطلب الإعفاء الضريبي ومنح سكان الجزيرة وضعاً خاصاً، اعتبر فالس أنّ ذلك يتعارض كلياً مع مبادئ الجمهورية. ووعد رئيس الحكومة الفرنسية، أن يلتقي قريباً مع سيموني وتالاموني، ليناقش معهما تعزيز السلطات الإقليمية والمحلية، لكن من دون الخوض في الأفكار الاستقلالية التي ترفضها الحكومة بشكل قاطع.

وينذر الملف الكورسيكي بالتحول إلى قنبلة سياسية. فإذا كانت مواجهة حزب "الجبهة الوطنية" تدور في ساحة الأفكار والسجال الأيديولوجي، فإن مواجهة القوميين في بلادهم وبين أنصارهم ستكون معركة أكثر ضراوة، لكون القوميين الكورسيكيين استخدموا سلاح الديمقراطية والشرعية السياسية.    

تجدر الإشارة إلى أنّ جزيرة كورسيكا لها خصوصية تاريخية داخل الجمهورية الفرنسية. وتميّزت العلاقة بين الدولة والجزيرة بمراحل توتر كبيرة، سالت فيها الدماء، واستُخدمت فيها لغة السلاح بين القوميين المتشددين وأجهزة الدولة التي قمعتهم بحزم كبير. واضطرت الدولة إلى تقديم تنازلات كبيرة، وأقرت تشريعات متعاقبة مع إصلاحات إدارية في أعوام 1982 و1991 و2002 تمنح الجزيرة صلاحيات موسّعة في التدبير المحلي.

اقرأ أيضاً دروس الانتخابات الفرنسية: اليمنين المتطرف يؤسس لثلاثية حزبية