حلب... مدينة التاريخ تحدد مستقبل سورية

04 اغسطس 2016
يدفع أهالي حلب ثمن الحروب ضدهم (براء الحلبي/فرانس برس)
+ الخط -
يحتدم صراعٌ دامٍ حول مدينة حلب التي تُعدّ أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، وثاني أهم المدن السورية بعد العاصمة دمشق، وعاصمة البلاد الاقتصادية التي باتت في قلب المشهد السوري، خصوصاً في الأيام القليلة الفائتة إثر بدء المعارضة السورية معارك لفك الحصار عن أحياء حلب الشرقية التي تقع تحت سيطرتها. وحاولت المعارضة السورية منذ العام 2012 السيطرة على مجمل مدينة حلب، إلا أنها كانت في كل مرة تصطدم بحسابات إقليمية ودولية تحول دون تحقيق هذا المبتغى، إضافة إلى أن النظام دفع إلى المدينة قوات كبيرة، وقوات حزب الله ومليشيات ممولة من إيران.
اليوم تنتظر حلب المجهول، وقد احتدم الصراع من حولها، إذ يرى مراقبون أن ما يجري فيها سوف يحدد مصير سورية، وهذا ما يفسر إصرار جميع الأطراف على الفوز بها، فالنظام وحلفاؤه الروس والايرانيون يدركون أن الخروج من حلب يعني بداية النهاية لمخططاتهم في سورية، والمعارضة توقن أن سيطرتها على حلب تتيح لها القاعدة الأهم للانطلاق إلى تحرير العاصمة دمشق ووأد مشروع تقسيم سورية الذي تسعى أطراف إقليمية ودولية لتكريسه أمراً واقعاً، في حال فشلها في إعادة إنتاج نظام لم يتورع عن تدمير أجمل وأعرق المدن التي سكنها الإنسان.
لطالما اتُهمت مدينة حلب بأنها لم تسر في ركاب ثورة السوريين التي انطلقت في عام 2011، باستثناء بعض الأحياء التي كانت تخرج فيها تظاهرات كل يوم جمعة، إلى أن جاء منتصف عام 2012، فوجدت مدينة حلب نفسها في قلب المشهد الثوري إثر تقدّم فصائل المعارضة السورية من ريفها، فسيطرت على أحيائها الشرقية. وباتت حلب مشطورة "غربية وشرقية"، لتبدأ المأساة الكبرى لسكان الأحياء التي سيطرت عليها المعارضة، إذ شنّ النظام عليها "حرب إبادة" مستخدماً كل أنواع الأسلحة، بما فيها الصواريخ البالستية بعيدة المدى، والبراميل المتفجرة التي قتلت آلاف المدنيين، وشردت ما يربو على المليون حلبي في أواخر عام 2013 وبدايات عام 2014، واستمرت المذبحة حتى اليوم.
وتُعد حلب أقدم مدينة لا تزال مأهولة في التاريخ، إذ يذكر الصحافي الحلبي فراس ديبة، أن منطقة "المغاير" في قلب حلب القديمة سكنها الإنسان الأول، ولا تزال مأهولة حتى وقتنا الراهن. تُعد حلب كبرى المدن السورية لجهة عدد السكان، إذ أظهر إحصاء أُجري في عام 2010، أن عدد سكان حلب مليونان و200 ألف نسمة، وعدد سكان ريفها لا يقل عن هذا العدد. تشتهر المدينة بأبوابها التاريخية التسعة، وهي: باب الحديد، باب الفرج، باب انطاكية، باب جنين، باب النصر، باب المقام، باب النيرب، باب قنسرين، وباب العدل. وتفخر بأسواقها، حيث يوجد فيها أطول سوق مسقوف في العالم، وهو ما يطلق عليه الحلبيون اسم "سوق المدينة"، والذي احترق جانب منه في عام 2012 بقصف طيران النظام. كما تفخر حلب بقلعتها التي تعد من أكبر وأقدم القلاع في العالم، وتتميز بحصانتها ومنعتها، وهي ذات طابع معماري فريد، ووُجدت فيها آثار تعود إلى فترات زمنية مغرقة بالقدم، وفق مصادر تاريخية. مرت على المدينة أغلب الحضارات الإنسانية، إذ تشير المصادر التاريخية إلى أن أغلب الأمم التي عُرفت قبل الميلاد سكنت في حلب، وأن النبي ابراهيم سكن فيها ردحاً من الزمن.


سيطر العرب المسلمون بقيادة خالد بن الوليد على المدينة في العام 637 ميلادي، حيث طرد منها الروم البيزنطيين، واهتم بها الأمويون كونها على حدود الدولة العربية مع الروم من جهة الشمال، فبنى فيها الخليفة سليمان بن عبد الملك، الجامع الأموي على صورة المسجد الأموي في دمشق الذي بناه شقيقه الوليد. كان لمدينة حلب فترات ازدهار كبيرة خصوصاً في عهد الأيوبيين، والحمدانيين، وتحوّلت إلى أهم المدن العربية من حيث الحضور العسكري والاقتصادي، والثقافي، حيث سكنها شاعر العربية الأول أبو الطيب المتنبي أيام سيف الدولة الحمداني، وفيها جادت قريحته بعيون الشعر العربي، ولا يزال أهل حلب يرددون في كل مناسبة ما قاله ذات يوم بعيد: "كلما رحبت بنا الروض قلنا حلب قصدنا وأنت السبيل". كما سكنها أبو فراس الحمداني أشجع، وأنبل فرسان بني حمدان.
اقتحمها هولاكو عام 1260 وأباحها لجنوده لأيام عدة، نشروا الخراب في أركانها. وفي عام 1400 للميلاد استباحها تيمور لنك وقتل الآلاف من أهلها، وهدم أجزاء منها. وفي عام 1516 دخلها العثمانيون سلماً، ثم أصبحت من أهم وأكبر الولايات في الامبراطورية العثمانية، إذ ضُمت إليها أغلب المدن الكبرى المحيطة بها، ومنها مدن باتت الآن ضمن الدولة التركية أبرزها غازي عينتاب وانطاكية.
يقول الشاعر الحلبي علي الشريف في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "من دون مدينة حلب لا يوجد شيء اسمه سورية، فهي عاصمتها الاقتصادية الحقيقية، حيث الثقل المالي والتجاري والصناعي، والعمق السكاني"، مشيراً إلى أن عمرها يربو على 12 ألف سنة، وهي كانت في قلب العالم القديم إذ تقع على طريق الحرير التاريخي. ويلفت الشريف إلى أنها تميّزت عبر تاريخها الطويل بـ"التسامح"، مضيفاً: "أهل حلب أبعد الناس عن التزمت، وأكثرهم قبولاً للآخر، وقد احتضنوا على مدى قرون الكثير من الأقوام الذين وفدوا إليها مستأمنين". ويشير إلى أن مدينة حلب في قلب التاريخ الإسلامي، ولذلك تم اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية في عام 2006 بعد مكة المكرمة مباشرة، متوقعاً عودتها أقوى مما كانت عليه بعد سقوط النظام، وبدء حياة سياسية جديدة في سورية.
لعبت مدينة حلب الدور الأبرز في تاريخ سورية المعاصر، وكان لعدد من رجالاتها حضور كبير في حياتها السياسية والعسكرية والثقافية، ومن أبرزهم سعد الله الجابري وهو من أهم رجالات الاستقلال عن فرنسا عام 1946. كما أنجبت حلب واحداً من أهم المفكرين، ورجال التنوير والنهضة في العالم العربي، وهو عبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب "طبائع الاستبداد وﻣﺼﺎرع اﻻﺳﺘﻌﺒﺎد". حاولت حلب في عام 1980 الوقوف أمام نظام حافظ الأسد الذي بدأ يضع يده على كل شيء في سورية، فأمر قواته بارتكاب مجزرة في حي المشارقة لا يزال يتردد صداها في ذاكرة الحلبيين، رغم مرور عقود عليها، وارتكاب بشار الأسد من المجازر ما هو أقسى وأفظع.