بعد مرور 50 عاماً على الحرب مع مصر وسورية في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، التي تُعرف باسم "حرب أكتوبر"، لا تزال إسرائيل تستخلص العبر بشأن إخفاقاتها، في ما تطلق هي عليها اسم "حرب يوم الغفران"، أكثر من تركيزها على صورة "النصر" الذي حققته قبل وقف إطلاق النار في 24 أكتوبر. ولا يقلل ذلك من بسالة الجنود المصريين والسوريين في سيناء وهضبة الجولان في حينه، وتوجيههم ضربات قاسية لجيش الاحتلال الاسرائيلي خصوصاً في أيام الحرب الأولى، قبل أن تقلب إسرائيل الطاولة وتغيّر وجهة المعركة.
ولا تزال إسرائيل تحتل أجزاء من هضبة الجولان السوري منذ عام 1967، فشلت سورية في استعادتها في حرب أكتوبر، كما تواصل دولة الاحتلال تعزيز الاستيطان في المكان.
وقبل نصف قرن، نجحت مصر وسورية بمفاجأة الاستخبارات الإسرائيلية، ليمنحهما عنصر المفاجأة أفضلية في الأيام الأولى من حرب أكتوبر، لدى محاولاتها استعادة الأجزاء المحتلة من هضبة الجولان السوري وشبه جزيرة سيناء، في حين كشف الأرشيف الإسرائيلي في سبتمبر/أيلول الماضي، تفاصيل جديدة، حول حالة التخبّط الإسرائيلية في اتخاذ القرارات.
وفي الوقت الذي كشفت فيه إسرائيل عن أجزاء كبيرة من أرشيف الحرب بمناسبة مرور خمسة عقود على حدوثها، وحتى قبل ذلك، تجرى الكثير من المقارنات بين ما كان عليه الوضع قبل حرب أكتوبر، وما آلت إليه الأمور اليوم في ظل الأزمة الإسرائيلية الداخلية على خلفية خطة التعديلات القضائية.
خسرت إسرائيل في حينه 2222 جندياً قُتلوا خلال الحرب، بالإضافة إلى 294 أسيراً وأكثر من 7500 جريح، بحسب المعلومات التي نشرها موقع "المكتبة الوطنية" الإسرائيلية، الذي أكد أيضاً أن معظم خسائر إسرائيل سُجّلت في الأيام الخمسة الأولى من الحرب.
خسرت إسرائيل 2222 جندياً خلال الحرب، بالإضافة إلى 294 أسيراً وأكثر من 7500 جريح
بعد الحرب ساد في إسرائيل لفترة طويلة شعور شديد بالفشل وانعدام الثقة في القادة بسبب عدد القتلى في صفوف الجيش نتيجة أخطائهم.
في 18 نوفمبر من ذلك العام، قررت الحكومة الإسرائيلية تشكيل لجنة أغرانات للتحقيق في الأحداث التي سبقت الحرب والأيام الأولى من القتال. حمّلت النتائج التي خلصت إليها اللجنة مسؤولية ثقيلة لرئيس هيئة الأركان في حينه دافيد إليعازر، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية إيلي زاعيرا، وقائد المنطقة الجنوبية شموئيل غونين (غوروديش)، باعتبارهم مسؤولين عن الإخفاقات حتى اندلاع الحرب وعواقبها الوخيمة، ما أدى بعد نشر نتائج اللجنة إلى استقالة إليعازر والإطاحة بغونين ولاحقاً استقالة رئيسة الوزراء غولدا مائير في إبريل/نيسان 1974 عقب احتجاجات عامة في الشارع الإسرائيلي.
وأشار الأرشيف إلى ثقة كبيرة في النفس في صفوف القادة الإسرائيليين قبل نشوب الحرب، تحوّلت إلى مخاوف كبيرة في الأيام الأولى للحرب، قبل تصاعد الثقة مجدداً مع مرور الأيام ليظهروا لاحقاً نشوة كبيرة، بعد تحقيق ما اعتبروه نصراً إسرائيلياً مبهراً.
وذكر الأرشيف أن الحكومة الإسرائيلية تجنّبت في أول يومين من الحرب (6 و7 أكتوبر)، مكاشفة الجمهور بمدى صعوبة الوضع على الجبهتين السورية والمصرية، وحاولت من خلال وسائل الإعلام التركيز على الردع الإسرائيلي بدلاً من الهجوم القوي من قبل الجيشين العربيين، وعلى إسقاط طائرات مصرية وتدمير دبابات، أي أنها ركّزت على إنجازات محدودة بدلاً من طرح الصورة الواسعة لمجريات الحرب.
لا تزال صدمة حرب "يوم الغفران" هي نفسها حتى اليوم بعد مرور خمسين عاماً على الحرب، بحسب ما نشره موقع "المكتبة الوطنية"، مضيفاً أن "دولة إسرائيل لا تزال تلعق جراحها ونتائج أخطائها. وبخلاف الانتصار الساحق في حرب الأيام الستة (حرب 1967)، انتهت حرب يوم الغفران بانتصار مثير للجدل، وبتكلفة باهظة، ما أدى إلى تغيير وجه الأمور في الدولة".
جدل حول أشرف مروان
في موازاة ذلك، ما زال أشرف مروان، صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ولاحقاً مستشار الرئيس الراحل أنور السادات، يثير جدلاً في إسرائيل حتى اليوم، حيث تختلف الآراء بشأن ما إذا كان جاسوساً مصرياً أو عميلاً مزدوجاً، فيما يرى آخرون أنه كان مخلصاً لإسرائيل. في جميع الحالات قدّم مروان معلومات مهمة لإسرائيل ساهمت في تغيير وجه حرب أكتوبر 1973، بحسب ما كشفه الموساد الإسرائيلي، في كتاب أصدره حديثاً تحت عنوان "ذات يوم عندما يُسمح بالحديث" ويتحدث عن دور الجهاز الاستخباري قبل وخلال الحرب. ويتطرق الكتاب إلى دور مروان وما وُصفت بأنها "المعلومة الذهبية" التي قدّمها لإسرائيل في حينه وغيّرت وجه الحرب.
في المقابل، اعتبره رئيس "الموساد" الحالي ديفيد برنيع، في حديثه خلال مراسم إطلاق الكتاب، من أهم جواسيس إسرائيل. ويشير الكتاب إلى أنّ مروان هو من نقل إلى رئيس "الموساد" في حينه تسفي زامير، التحذير من الهجوم المشترك لجيشي مصر وسورية في الليلة التي سبقت اندلاع الحرب عام 1973. وبحسب رواية "الموساد"، فإنه في 12 أكتوبر، بعد 6 أيام من بدء الحرب عندما كان وضع جيش الاحتلال الإسرائيلي سيئاً جداً على الجبهة الجنوبية مع مصر، بحث قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في جلسة صاخبة، خطة لعبور قناة السويس. وبناء على تلك المعلومة تغيّرت الخطة الاسرائيلية، وبدلاً من عبور القناة، تقرر نصب كمين للجيش المصري.
مخاوف متجددة
تنعكس مخاوف القادة الإسرائيليين اليوم أيضاً في ظل الأزمة الداخلية التي تشهدها إسرائيل والحديث عن فقدان الجيش الإسرائيلي شيئاً من كفاءته، بسبب إعلان عدد كبير من جنود الاحتياط في سلاح الجو ومختلف الأجهزة عدم الامتثال للخدمة العسكرية احتجاجاً على خطة التعديلات القضائية التي تقودها حكومة بنيامين نتنياهو لإضعاف القضاء.
وانعكست بعض المخاوف خلال اليوم الخاص الذي عقدته شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية في سبتمبر الماضي بمناسبة حرب أكتوبر، بمشاركة وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، ورئيس هيئة أركان جيش الاحتلال هرتسي هليفي، ورئيس قسم الاستخبارات أهارون حليوة، والذين أعربوا عن مخاوفهم الكبيرة حيال كفاءة الجيش الإسرائيلي. ويسعى المستوى الأمني الإسرائيلي لرص الصفوف داخل الجيش، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الجيش فَقَد الكثير من كفاءته، في ظل ما يمتلكه من قدرات عسكرية وتكنولوجية تمنحه تفوقاً كبيراً في المنطقة.
غالانت: علينا أن نكون مستعدين للحرب، حتى لو جاءت على حين غرة
وقال غالانت خلال اللقاء إنه "بعد مرور كل هذه السنوات على الحرب (منذ أكتوبر 1973)، لا تزال دروسها محفورة بعمق على جلدنا. علينا أن نكون مستعدين للحرب، حتى لو جاءت على حين غرة. ومن واجبنا أن نكون يقظين وحذرين ومستعدين لنداء الواجب في أي وقت". وتشير الدروس التي تحدث عنها غالانت إلى عدم استعداد إسرائيل لحرب أكتوبر واستبعاد حدوثها وتعامل القيادة الإسرائيلية في حينه باستهتار مع الوضع، لظنها أن إسرائيل لقّنت العرب دروساً في المعارك السابقة لن يجرؤوا بعدها على المواجهة.
وربط غالانت بين سوء التقديرات في تلك الفترة وسوء الاستخبارات، وبين ما هو حاصل اليوم من رفض جنود إسرائيليين في جيش الاحتياط الامتثال للخدمة، الأمر الذي من شأنه إضعاف العسكر. ودار حديث المتحدثين الآخرين في الفلك نفسه، عن أهمية الاستعداد لحرب فجائية في أي لحظة، مشيرين إلى خسائر يوم الغفران ونتائج مشابهة في حالة تضرر كفاءة الجيش الإسرائيلي.
على الرغم من النقاش الإسرائيلي الداخلي بشأن كفاءة جيش الاحتلال، فإنه عمل على تحسين قدراته العسكرية وتطوير أدواته التكنولوجية والاستخباراتية. كما نُشر تقرير في الأسبوع الأخير يشير إلى ازدياد عدد الدول ومنها أوروبية التي تعتمد على منظومات دفاع إسرائيلية عسكرية وتكنولوجية. وقال قائد سلاح الجو الإسرائيلي تومر بار، في مقال خاص نشره في وسائل إعلام إسرائيلية أمس الخميس، بمناسبة مرور خمسة عقود على حرب أكتوبر، إن "الدرس الأهم، الذي أحمله معي بصفتي قائداً لسلاح الجو، هو الحاجة إلى رص الصفوف. مثلما استطعنا النهوض في مواجهة أحداث حرب يوم الغفران، سنعرف هذه المرة أيضاً كيف نواصل الدفاع عن دولة إسرائيل".
"رأيت طائرات تُسقط طروداً ثم بدأت في الانفجار"
خلال ندوة عُقدت في حيفا، أخيراً، عاد عمرام متسناع، الذي كان قائد كتيبة دبابات في حرب أكتوبر، ولاحقاً نائباً في الكنيست الإسرائيلي، إلى ما حدث في فترة الحرب مقارناً بينها وبين ما يحدث في إسرائيل بعد 50 عاماً، مؤكداً وجه الشبه بين الفترتين، على مستوى ما يحدث اليوم داخل الحكومة والجيش.
"العلاقة تكمن في المفاهيم"، قال متسناع، مضيفاً: "لقد اندلعت حرب يوم الغفران بسبب مفاهيم خاطئة سيطرت على العقول. لم تتمكن أي معطيات أو وقائع من تغيير تلك المفاهيم. حتى اليوم نحن مخطئون في الاعتقاد بأن لدينا بنية لنظام يمكنه التعامل مع أي شيء. نحن مخطئون في الاعتقاد بأننا نستطيع إبقاء ملايين الفلسطينيين تحت سيطرتنا، ولكننا ندفع ثمن ذلك أو سندفع، والواقع سيصفعنا على وجوهنا".
وتابع: "سأحدثكم عن التصور الذي كنا عالقين فيه جميعاً. يوم السبت، يوم اندلاع الحرب، كنت أنا قائد كتيبة دبابات. نزلت من مدرسة المدرعات إلى قاعدة في سيناء في الساعة 1:40 ظهراً. كنت أتجول في مركبة عسكرية في القاعدة العسكرية. فجأة رأيت طائرات في السماء. قلت لنفسي: إذا كان سلاح الجو يتدرب في يوم الغفران، فلا بد أن يكون تدريباً جدياً. رأيت الطائرات تُسقط طروداً، واعتقدت أن التدريب كان جدياً للغاية. فقط عندما بدأت الطرود في الانفجار من حولي، أدركت ما يحدث وانهار المفهوم الذي كنا نتمسك به."
"تهديد الأمن القومي"
يرى الكثير من المحللين والصحافيين أن "كارثة حقيقية" تتهدد إسرائيل بسبب الحكومة الحالية، بعد 5 عقود على حرب أكتوبر، من بينهم موشيه غورالي، الصحافي في صحيفة "كلكليست" الاقتصادية، الذي قال إن إسرائيل لم تشهد حكومة تهدد الأمن القومي والاقتصاد والتماسك الاجتماعي وحتى مكانة إسرائيل الدولية "منذ الكارثة" في حرب 1973، مثل الحكومة الحالية. وأشار إلى أن "أحد الدروس المهمة المستفادة من الحرب، هي أن "إسرائيل لن تدوم إلا إذا تم استيفاء شرطين متشابكين... التفوق التكنولوجي - الاقتصادي - الأمني، والذي يعتمد تحقيقه على توافق اجتماعي واسع النطاق على نظام ديمقراطي - ليبرالي".
الأزمة الإسرائيلية حول خطة التعديلات القضائية عمّقت الانقسام الداخلي
لا شك أن الأزمة الإسرائيلية حول خطة التعديلات القضائية عمّقت الانقسام الداخلي. وتشهد إسرائيل صراعاً جدياً حول هويتها بين الليبراليين والمتدينين وانعكس ذلك في أحداث "يوم الغفران" الأخير قبل أيام، حيث مُنعت إقامة صلاة تفصل بين الرجال والنساء في الحيز العام في تل أبيب وحيفا ومدن أخرى، وأثار ذلك سجالاً كبيراً، من ضمن قضايا أخرى تشهد نقاشاً حاداً.
"لا سادات فلسطينياً"
لم تتمكن إسرائيل على مر السنوات الماضية من إخماد جذوة المقاومة الفلسطينية التي تتمكن بعد كل معركة من النهوض مجدداً ومقاومة الاحتلال، وفي الوقت نفسه ترفض المضي في اتفاق سلام مع الفلسطينيين. ورأت الزعيمة السابقة لحزب "ميرتس"، زهافا غلئون، أن قادة إسرائيل لم يستخلصوا العبر من حرب أكتوبر 1973، "وعلى الرغم من الزمن الذي مضى وكثرة الدماء التي سالت على مر 50 عاماً منذ ذلك الحين، ما زلنا نحمل ندوب حرب يوم الغفران. لذلك، ليس من المستغرب أنه بعد مرور 50 عاماً، لا تزال رياح تلك الحرب تهبّ، ونواصل الحفر في الجرح، في كل يوم غفران من جديد والمقارنة بين قيادة 1973 وقيادة 2023".
وقالت غلئون في مقال نشرته أخيراً في وسائل اعلام إسرائيلية، إنه كثيراً ما كُتب عن الإخفاق الاستخباراتي وإخفاق المستوى السياسي في حرب أكتوبر، وإن كل الظروف لا تزال قائمة اليوم أيضاً في ظل حكومة اليمينية بالكامل وسعيها لإحداث "انقلاب سلطوي". مع هذا، أضافت غلئون: "تغيرنا بعض الشيء في الخمسين سنة الماضية. لقد استبدلنا العدو المصري بعدو فلسطيني. نتنياهو استبدل غولدا مائير، كما يسعى للقضاء على حل الدولتين، فهو يؤمن بأمرين هما إدارة الصراع وبقاؤه الشخصي".
وذكرت غلئون أن "حكومة غولدا مئير وموشيه ديان رفضت العديد من رسائل الرئيس المصري الراحل أنور السادات لإعادة سيناء إلى مصر مقابل سلام كامل... لكن مائير لم ترَ ذلك أمراً ملحّاً، وعندها دفع آخرون الثمن" في إشارة إلى الخسائر الإسرائيلية في الحرب. ولفتت إلى أن نتنياهو يعتبر أنه "لا يوجد سادات فلسطيني، بعد سنوات من الصراع الدامي مع الفلسطينيين، لكنه نسي، أنه قيل عن السادات أيضاً بأنه ليس شريكاً (للسلام)، ولكنه (أي نتنياهو) لا يرى التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين أمراً ملحّاً".