"حرقة" عائلية... جزائريون يهجرون البلاد في قوارب الموت

"حرقة" عائلية... جزائريون يهجرون البلاد في قوارب الموت

05 أكتوبر 2021
عائلات بأكملها تنخرط في الهجرة السرية (خيسوس ميريدا/Getty)
+ الخط -

 

أكثر فأكثر تُسجّل رحلات "حرقة" أو هجرة سرية من السواحل الجزائرية، على متن ما يوصف بقوارب الموت. لكنّ "أبطالها" صاروا أكثر تنوّعاً.

لا يُختصَر المهاجرون السريون الذين ينطلقون من الجزائر صوب أوروبا بالشباب المتحمّسين لمغادرة البلاد التي ضاقت بهم. ومن بين آلاف الباحثين عن فرص خارج حدود البلاد، عائلات بأكلمها قرّرت الرحيل من أجل مستقبل أفضل. وتخوض كلّ واحدة مغامرة، لا شكّ في أنّها خطرة، مع أطفالها الذين لا يدركون الواقع الأليم. وبينما يفرح الصغار بالبحر وبما يظنّون أنّه سفر ممتع في قارب مطاطي أو غير ذلك، يرافق القلق الوالدَين في طريق "الحرقة".

والهجرة السرية تراود كثيرين، منهم من كان قبل مدّة غير بعيدة ينشط على الصعيد الوطني. ناصر سلطاني واحد من هؤلاء الذين أقدموا قبل أيام على تلك الهجرة، علماً أنّه أحد أبرز المشاركين في تظاهرات الحراك الشعبي في حيّ باب الوادي الشعبي في قلب العاصمة الجزائرية. وخاض سلطاني البحر على متن قارب مطاطي برفقة زوجته وأطفالهما، وقد نشر صوراً له ولأفراد عائلته وهم يرتدون سترات النجاة. وبعد يوم، بلغت الأخبار أصدقاءه، وقد تأكد وصوله وعائلته إلى السواحل الإسبانية.

وقبل مدّة، حسم أفراد من عائلة بوخاتم أمرهم، وهم من مدينة وهران شمال غربيّ الجزائر، وركبوا قوارب الموت. في البداية، انطلق الابن الأكبر بصحبة أخته وابنتها البالغة من العمر سبعة أشهر، وقد رافقتهم عائلة جيرانهم المكوّنة من رجل وامرأة وابنتَيهما، ووصلوا جميعهم إلى السواحل الإسبانية. أمّا الأفراد الباقون من عائلة بوخاتم في الجزائر الذين كانوا ينوون ملاقاة هؤلاء الأوائل في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، فلم يرد أيّ خبر عنهم. لذا اضطرت الابنة التي وصلت إلى إسبانيا، إلى الإبلاغ عن فقدانهم في عرض البحر، وذلك بعد 11 يوماً من الموعد المحدد لوصولهم. ومن بين العائلات التي خاضت البحر، أختان وأخوهما الأصغر سناً من مدينة مستغانم شمال غربيّ البلاد، وقد بلغوا السواحل الإسبانية كذلك في الصيف الماضي، إحداهما كانت تعمل في قطاع التعليم.

الصورة
أطفال جزائريون في إسبانيا بعد هجرة سرية (خيسوس ميريدا/Getty)
الصغار ضحايا مغامرات غير مسؤولة (خيسوس ميريدا/Getty)

لم تثر هجرة ناصر سلطاني السرية نقاشاً في الدوافع التي جعلت مواطناً متّقداً بالحيوية يطمح إلى التغيير السياسي والاجتماعي في الجزائر ويقود تظاهرات شعبية ضد الظلم الاجتماعي والإقصاء، إلى المغامرة بحياته وحياة أطفاله في رحلة غير مضمونة العواقب في الأساس. لكنّ ما أتت به عائلة سلطاني، وكذلك عائلة بوخاتم وغيرهما من العائلات الجزائرية، يفتح نقاشاً جدياً في انخراط العائلات في الهجرة السرية. فبعدما كانت هذه الهجرة خطوة فرديّة يقدم عليها شبان عاطلون من العمل، صارت فعلاً ينخرط فيه كلّ أفراد العائلة. ويتحمّل في ذلك الآباء مخاطر المجازفة بأبنائهم وكذلك زوجاتهم، بالإضافة إلى التكاليف المتوجّبة التي تأتي مضاعفة بحسب عدد أفراد العائلة، والتي قد تصل أحياناً إلى نحو أربعة آلاف يورو.

وهكذا صارت الهجرة السرية تتوسّع في داخل النسيج الاجتماعي في الجزائر، وبدلاً من أن تكون رغبة فرد، صارت رغبة عائلة بأكملها، أو رغبة ربّ عائلة تنسحب على جميع أفرادها. وصار الجزائريون يتخلّون عن كلّ شي أو يضطرون إلى ذلك من أجل حياة جديدة، يأملون أن تكون فضلى. وبحسب ما يرى متابعون لهذا الملفّ، يُعَدّ ذلك تطوّراً لافتاً في فكرة الخروج من البلاد، وخصوصاً في الفترة الأخيرة التي ترتفع فيها أعداد المهاجرين السريين أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً مع الأزمات المتراكمة من قبيل السكن والبطالة وتردّي الأوضاع المعيشية وغياب أفق التغيير في البلاد والتأثير الكبيرلأزمة كورونا الصحية مع إغلاق عشرات المؤسسات. بالتالي صارت المغامرة في البحر الحلّ الأفضل، وربّما الحلّ الأخير بالنسبة إلى كثيرين.

وفي هذا الإطار، يقول الباحث في علم الاجتماع السياسي، عبد المؤمن خلّادي، من جامعة وهران، إنّ "هذه الظاهرة الجديدة نوع من الانتماء إلى الفضاء بكل ما يتضمنه من روابط عائلية وعلاقات اجتماعية". ويشرح لـ"العربي الجديد" أنّ "ثمّة جزئيات كثيرة تدفع العائلات إلى اللحاق بالقرار الذي اتخذه ربّ العائلة. وفي معظم الأحيان، يأتي مثل هذا القرار بعيداً عن تأثيرات أطراف خارجية، فالانتماء إلى العائلة يجعل أفرادها ينخرطون في هذا الخيار". يضيف خلّادي أنّ "السنّ والتجربة والمسؤولية توفّر القدرة على التعامل مع الأحداث بشكل نقدي، وليس الجري وراء الوهم. بالتالي، إنّ انخراط العائلات في ذلك يأتي انطلاقاً من وعي بحجم الظروف غير المواتية للعيش، ووعي كذلك بالمسؤولية والمخاطر التي ستواجهها في عرض البحر أو حتى عند الوصول إلى الضفة الأخرى".

وفي معظم الأحيان، يكون ثمّة معين للعائلة التي قرّرت الهجرة بكامل أفرادها، في أوروبا، من قبيل الإخوة أو أبناء العمومة أو غيرهم. فيعرض هؤلاء استقبال العائلة ومساعدتها للانطلاق في تجربة عيش جديدة في بلد أوروبي. وهذا عامل مشجّع بالنسبة إلى العائلة، خصوصاً في ظلّ وضع اجتماعي غير مشجّع في الجزائر. يُذكر أنّ هجرة العائلات وهجرة النساء ظهرتا كذلك في وقت سابق. وعمليات إحباط رحلات الهجرة السرية التي تنفّذها فرق حرس السواحل كشفت عن وجود شابات قرّرنَ التخلّص من الخوف ومن الضغوط الاجتماعية، فغامرنَ كما الشبّان. ومن بين هؤلاء من هنّ متعلّمات ويحملنَ شهادات جامعية.

الصورة
مهاجرون سريون في إسبانيا (خيسوس ميريدا/Getty)
من هؤلاء الباحثين عن فرص خارج حدود البلاد (خيسوس ميريدا/Getty)

وانتقال الهجرة السرية من الشبان حصراً لتشمل الشابات ثمّ العائلة ككلّ، يُفسَّر في التغيّر الكبير في المسؤوليات والعلاقات الاجتماعية. وتوضح أستاذة علم الاجتماع من جامعة البويرة شرقيّ الجزائر، فريدة لمطاعي، أنّ "دراسة الظروف الاجتماعية التي تحيط بالعائلات الجزائرية تكشف أحد أهمّ أسباب التفكير في الهجرة السرية الجماعية". وتقول لـ"العربي الجديد" إنّ "ثمّة تشابكاً كبيراً في الأدوار وتعقيدات في عملية الهجرة السرية، مع أهمية الأحياء الشعبية في المدن الكبرى في التشجيع على هذا النوع من الهجرة. والبيئة المحيطة بالعائلات صارت تمثّل عبئاً كبيراً، فلا يمكن إغفال طبيعة النسيج العمراني في الجزائر. مبانٍ شامخة من دون مرافق للترفيه والتنزّه، ومشكلات بالجملة بين الجيران. بالتالي، يبدو البقاء في بعض الأحياء، وخصوصاً الشعبية، من الأخطاء المرتكبة في خيار العيش في تلك المناطق".

وبغضّ النظر عن مخاطر الغرق في عرض البحر، ثمّة مخاطر أخرى قد تترتب عن الهجرة السرية لعائلات بأكملها، إذ إنّ ثمّة قوانين محلية في بعض الدول الأوروبية تعمد إلى الفصل ما بين الزوجة والزوج لحظة بلوغ العائلة المهاجرة سرّاً السواحل الأوروبية، ثمّ تحيل الأطفال على مراكز خاصة. فبالنسبة إلى تلك القوانين، إقدام ربّ العائلة على الهجرة السرية والمغامرة بأطفاله هو انعدام للمسؤولية. ويقول النائب السابق في البرلمان الجزائري عن الجالية في إسبانيا وأوروبا نور الدين بلمداح لـ"العربي الجديد" إنّ "لدى قضاة في إسبانيا حساسية مفرطة في ما يتعلّق بتعريض الأطفال للخطر. وإزاء ذلك يعمدون إلى قرار سحب الأطفال من والدَيهم وتسليمهم للجهات المعنية لوضعهم في مراكز تشرف عليها جمعيات متخصصة في رعاية الأطفال". 

وفي العامَين الأخيرَين، انتزعت الإدارة الإسبانية عشرات الأطفال الجزائريين من ذويهم، وقد وصلوا معاً إلى البلاد عبر رحلات هجرة سرية على متن قوارب الموت، وسلّمتهم لجمعيات رعائية. وفي هذا الإطار، حكمت قاضية إسبانية في منطقة ألميريا (جنوب شرق) بفصل فتاتَين عن والدَيهما، رافضة توسّلات الأم. فهي وصفتها بأنّها غير مسؤولة، إذ غامرت بحياة ابنتَيها في البحر.

المساهمون