أطفال القمر... معاناة وعزلة وتمييز وتهميش في المغرب

أطفال القمر... معاناة وعزلة وتمييز وتهميش في المغرب

27 اغسطس 2023
محاولة انتزاع ابتسامة طفلة قمرية رغم المرض وإكراهاته (العربي الجديد)
+ الخط -

هم محرومون من أشعة الشمس، مسجونون اضطرارياً داخل منازلهم صيفاً وشتاءً. وإن غادروا للضرورة، تُلاحقهم نظرات الشفقة والاستغراب. هم عرضة للإصابة بالأمراض السرطانية والفقدان التدريجي للأعضاء الحيوية وضعف البصر والسمع. هؤلاء هم المصابون بمرض جفاف الجلد المصطبغ (Xeroderma pigmentosum) أو مرض "أطفال القمر" نسبة إلى عدم قدرتهم على الظهور بشكل طبيعي إلا تحت ضوء القمر عندما تغيب أشعة الشمس. 
وجفاف الجلد المصطبغ هو اضطراب جلدي وراثي نادر جداً، تمتاز فيه البشرة بالحساسية الشديدة للأشعة فوق البنفسجية. ويؤثر على عدة مناطق من الجلد خصوصاً المناطق المعرضة لأشعة الشمس، والعيون، ويعاني الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب من مشاكل في الجهاز العصبي.
بحرقة كبيرة، يحاول الشابان المغربيان حمزة ومحمد تزمرت، نقل معاناة هذه الفئة وما تواجهه من تهميش وتحديات اجتماعية وصحية وتربوية في المجتمع، بالإضافة إلى التنمر والتمييز. تعاني هذه الفئة من غياب التغطية الصحية لمرض مُكلف يؤدي إلى إعاقات ولا يعيش المصابون به طويلاً، ويفتقدون أية التفاتة حكومية لتخفيف العبء عنهم ودمجهم في وظائف تضمن لهم العيش الكريم وتحقيق الاستقلالية المادية.
حمزة ومحمد شقيقان يتحدران من ضواحي مدينة تارودانت (جنوب المغرب)، يعانيان من المرض منذ طفولتهما، وقد خضعا لعمليات جراحية عدة، ولم تكن الدراسة سهلة بالنسبة إليهما، ليكونا أول قمريين يحصلان على شهادة الإجازة في القانون الخاص من ‏كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي الرباط‏، وعملا على موضوع الوضعية القانونية لمرضى جفاف الجلد المصطبغ.
يقول حمزة (25 عاماً): "الحمد لله على نعمة العلم، وإن كانت الرحلة شاقة ومضنية فإنها تستحق، إذ أنار بصيرتي وساعدني في أن أكون صوت المرضى الذين لا صوت لهم في البوادي والقرى المغربية. كما زودني بنوع من المناعة الذاتية للتحمل والاستمرار على الرغم من كمّ التهميش الذي نقابل به، وقد بدأت دراسة القانون العام كون التسجيل في الدراسات العليا يفرض حضوراً إجبارياً".

الصورة
فعالية لأطفال القمر من تنظيم جمعية صوت القمر في فاس (العربي الجديد)
فعالية لأطفال القمر من تنظيم جمعية صوت القمر في فاس (العربي الجديد)

من جهته، يطالب شقيقه محمد (28 عاماً) الوزارات المعنية "تخصيص فرص عمل تأخذ بعين الاعتبار طبيعة المرض، وتُخوّل حاملي الشهادات الجامعية الحصول على وظائف من دون إقصائهم أو تهميشهم اعتماداً على الشكل". ويقولان لـ "العربي الجديد": "تعرضنا في طفولتنا لكثير من الوصمة والتمييز، ولم نكن نملك الوعي الكافي بطبيعة مرضنا، وسبب البثور والتصبغات التي تظهر على جلدنا. حصلنا على التعليم الابتدائي في مدرسة قريتنا، وكنا نقطع مسافة للوصول إليها تحت أشعة الشمس ومن دون أي إجراءات وقائية، ما زاد من تدهور حالتنا، كما أن الفصل لم يكن مزوداً بالستائر لحجب أشعة الشمس". 
يتابعان: "في المرحلة الإعدادية، كان علينا الانتقال إلى مؤسسة توفر لنا السكن الداخلي، إلا أننا تعرضنا للرفض من مديرها بسبب مخاوف من نقل العدوى للطلاب، على الرغم من أن هذا المرض غير معد، وهو ما يعكس غياب الوعي الكبير بطبيعة هذا الداء الوراثي". 
وعلى الرغم من إحباط الشقيقين، واضطرارهما للتوقف عن الدراسة مدة عام، إلا أنهما تمكنا من الالتحاق بمعهد لتربية وتعليم المكفوفين في مدينة تارودانت، حيث أكملا المرحلة الإعدادية، بعدما خضعا لتدريب على طريقة "برايل"، لغة المكفوفين وضعاف البصر، ثم شدّا الرحال إلى معهد آخر بمدينة تمارة (قرب الرباط)، حيث حصلا على شهادة البكالوريا، ثم سجّلا في الجامعة، ونالا العام الماضي شهادة الإجازة في القانون الخاص.
بالنسبة لحمزة ومحمد، فإنّ التأقلم في الحياة مع الإصابة بهذا المرض يتطلب مجهوداً كبيراً منهما على مستويات عدة، وسط غياب أي دعم حكومي على غرار دول تخصص منحاً شهرية لأطفال القمر.

الصورة
محمد تزمرت يرتدي القناع الواقي من أشعة الشمس العربي الجديد
محمد تزمرت يرتدي القناع الواقي من أشعة الشمس (العربي الجديد)

وخلال فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، تتفاقم معاناة المرضى وخصوصاً الذين يضطرون للخروج بسبب مواعيد صحية، أو الخضوع لعمليات، أو ارتياد مرافق لأغراض إدارية، فمعظم المؤسسات العمومية أو الخاصة غير مزودة بقاعات انتظار تحترم طبيعة مرضى جفاف الجلد المصطبغ، ناهيك عن غياب مراكز ومدارس وفضاءات ترفيهية خاصة بهم، كما أنهم محرومون من ارتياد المسابح أو الشواطئ. 
ويوضح حمزة: "نعاني صيفاً وشتاء. مع ارتفاع درجات الحرارة، نقضي يومنا داخل المنزل، مع ضرورة تغطية النوافذ بستائر سميكة، وعدم إنارة المصابيح المنزلية التي تصدر أشعة فوق بنفسجية. وليلاً، ليس هناك أي فضاءات يمكن ارتيادها مخصصة لمرضى جفاف الجلد المصطبغ".
يضيف: "حتى القناع الواقي من أشعة الشمس لم أحصل عليه إلا مؤخراً، بفضل جمعية صوت القمر، نظراً لعدم توفره في المغرب، وارتفاع سعره (حوالي ثلاثة آلاف دولار)، وهو ما يحول دون قدرة كثيرين على امتلاكه، على غرار عدة أدوية ومراهم جلدية وقطرات للعيون. بالإضافة إلى الكلفة، فإن بعض هذه الأدوية غير متوفر في الصيدليات، كما هو الوضع بالنسبة لقطرات دموع اصطناعية أستخدمها لتخفيف الجفاف والتهيج والحرقة المصاحبة لجفاف العيون". 

الصورة
حمزة تزمرت يرتدي القناع الواقي من أشعة الشمس العربي الجديد
يتمنى حمزة تزمرت تمتيع أطفال القمر بكافة حقوقهم (العربي الجديد)

خضع حمزة لـ 13 عملية جراحية وفقد الجزء العلوي من أذنه اليمنى بعدما تآكلت، ويعاني من ضعف في البصر، فيما أجريت لشقيقه محمد أكثر من 32 عملية جراحية، ولديه إعاقة بصرية في العين اليمنى، كما أنه مهدد بفقدان العين اليسرى بعد 3 سنوات. 

الصورة
طفل قمري يتطلع إلى مستقبل أفضل (العربي الجديد)
طفل قمري يتطلع إلى مستقبل أفضل (العربي الجديد)

لا يجد حمزة ومحمد الكلمات المناسبة لوصف معاناة المرضى القمريين في المجتمع، ويعتبران أن حقوق هذه الفئة مهدورة، علماً أن اتفاقيات أبرمت في فبراير/ شباط الماضي بين وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة والجمعيات العاملة لفائدة أطفال القمر، إلا أنها بقيت حبراً على ورق. ويأملان أن تعمل الجهات المعنية على تأسيس مدارس ومراكز خاصة بأطفال القمر، مجهزة بوسائل الحماية، وبأقسام داخلية تستقبل مرضى المناطق النائية، على اعتبار أن هذا المرض يتركز أكثر في البوادي.
وفارقت فاطمة الزهراء غزاوي (31 عاما) التي كانت مصابة أيضاً بمرض الجلد المصطبغ، الحياة في 20 أغسطس/ آب الجاري، بعدما تدهور وضعها الصحي مؤخراً، وبقيت في المستشفى من جراء إصابتها بفقر الدم من النوع الحاد. كانت قد أصيبت بالمرض وهي بعمر السنتين، بعد ظهور احمرار في بطنها ووجهها لتبدأ رحلة العلاج القاسية. قبل وفاتها، كانت تقول إنها في بداية الأمر، لم تتقبل مرضها، ولم تتفهم منع والديها لها من اللعب مع أقرانها تحت أشعة الشمس، أو ارتياد الشواطئ، ولا سبب تغير لون جلدها، كما أنها اضطرت إلى مغادرة مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية. 

الصورة
ابتسامة رغم الحرمان والظروف الصعبة (العربي الجديد)
ابتسامة رغم الحرمان والظروف الصعبة (العربي الجديد)

عند بلوغها سن 18 عاماً، تغيرت نظرة الشابة للمرض، وخضعت لأكثر من 50 عملية جراحية من جراء مضاعفاته، ولم تكن تغادر البيت إلا للضرورة الطبية، واضعة القناع الواقي وجهاز قياس الأشعة البنفسجية، بالإضافة إلى النظارات الشمسية والقفازات والواقي الشمسي. وكانت قد أطلقت قناتها "فتاة القمر" للتعريف بمرضها عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ومشاركة يومياتها وكيفية تعايشها مع المرض. 
يُقدّر عدد أطفال القمر في المغرب بحوالي 800 حالة، بحسب تقديرات غير رسمية لمنظمات تنشط في المجال، في غياب أي إحصائيات رسمية دقيقة عن عددهم. وتُعدّ جمعيتا "صوت القمر" و"التضامن مع أطفال القمر" من بين الجمعيات التي تُعنى بمساعدة الأطفال القمريين، واحتضانهم وإيصال صوتهم ومعاناتهم داخل المجتمع، والتعريف بكيفية الوقاية من المرض وعلاجه، والمساهمة في توفير العلاجات ورفع مستوى التوعية والتثقيف للحد من المخاطر التي تنجم عنه. 
ويقول رئيس جمعية "صوت القمر" (تأسست عام 2020 بفاس)، أحمد زينون، إن عدد الملتحقين فيها يصل إلى نحو 140 حالة من مختلف المدن المغربية، وتسعى إلى حماية أطفال القمر وخصوصاً الصغار وحديثي الولادة  لتفادي فقدان أعضائهم وبصرهم، وتوعية المجتمع بوجود أطفال القمر ومعاناتهم لتقليص التأثير النفسي الناتج عن نظرة المجتمع وإدماجهم داخل محيطهم، كما تعمل على توفير الأدوية وبعض وسائل الحماية كالأقنعة الواقية والنظارات الشمسية ومصابيح الإضاءة الخاصة.

الصورة
فاطمة الزهراء غزاوي التي عانت من تدهور وضعها الصحي مؤخرا
فاطمة الزهراء غزاوي التي عانت من تدهور وضعها الصحي مؤخرا (العربي الجديد)

ويوضح زينون لـ "العربي الجديد" أن مصطلح "أطفال القمر" لا يعكس شدة المرض الحقيقي وتحدياته على عدة مستويات، في ظل جملة من الإكراهات، وارتفاع كلفة وسائل الحماية، بل إن معظمها غير متوفر بالمغرب، كما هو حال القناع الواقي الذي يجلب من خارج البلاد، ويتكون من ثوب وزجاجة مرئية يحميان 100 في المائة من الأشعة فوق البنفسجية ومروحة هوائية لضمان التهوئة. يتابع: "نحاول جاهداً متابعة الوضع الصحي للمرضى وتأمين احتياجاتهم، من بينهاالفحوصات الدورية لدى أطباء الجلد". ويأمل أن يتمكن من إنشاء مركز خاص بأطفال القمر، حيث يدرسون ويعيشون حياتهم كباقي الأطفال، فضلاً عن تلقي العلاجات الضرورية.
من جهته، يدعو رئيس جمعية "التضامن مع أطفال القمر" حبيب غزاوي التي تأسست عام 2012 ومقرها مدينة المحمدية، إلى ضرورة تصنيف المرض ضمن لائحة أمراض الإعاقة، وأن يحصل المرضى على التغطية الصحية من دون تعقيدات إدارية، مشدداً على الحاجة الماسة للوصول إلى العلاجات المجانية، وتسهيل إجراء الفحوصات الطبية والعمليات الجراحية التي يحتاجونها من جراء تطور المرض.
غزاوي هو والد فاطمة الزهراء وقد واكب رحلة مرضها، وكان داعماً ومسانداً لها. ويقول إن الأطفال القمريين محرومون من كل شيء، مطالباً بأن يحصلوا على حقوقهم كاملة وعيش حياة كريمة.
يُصنف مرض جفاف الجلد المصطبغ من بين الأمراض الوراثية النادرة، وقد اكتشف لأول مرة عام 1870 الطبيب موريتز كابوزيس، ويعرف بأنه اضطراب جيني وراثي، تتعرض فيه البشرة للحساسية الشديدة للأشعة فوق البنفسجية، ويظهر على شكل بقع بيضاء وداكنة وتصبغات جلدية، ثم يتطور الأمر إلى أورام سرطانية تستلزم تدخلا جراحياً. ويعاني الأشخاص المصابون بالمرض من عدة مشاكل صحية، وتتأثر قرنية العين، ويحتاجون إلى مواكبة صحية دائمة كما تقول أخصائية الأمراض الجلدية والتناسلية سلمى القادري لـ "العربي الجديد".

تضيف: "لا يوجد أي علاج لمرض جفاف الجلد المصطبغ، غير أنه كلما كان تشخيصه مبكراً، كانت فرصة علاج المرضى أكبر. لذلك من المهم أن ينتبه الأهل إلى أطفالهم خلال السنوات الأولى، والتوجه إلى الطبيب في حال ظهور تصبغات جلدية قبل أن تتطور إلى أورام سرطانية ومشاكل في العيون تؤدي إلى ضعف البصر أو فقدانه".
كما تتحدث عن الأعراض العصبية التي تتطور لدى بعض المرضى وتؤدي إلى شيخوخة أعصاب مبكرة. وعلى الرغم من التقدم الحاصل في مجال الطب، غالباً ما لا يتم التعرف إلى المرض إلا في مرحلة ظهور البثور والتصبغات. وحينها، يجب الالتزام بالمتابعة الطبية ووضع القناع الواقي والمراهم الجلدية وواقي الشمس، فضلا عن توفير حماية كاملة من أشعة الشمس داخل المنازل. 

المساهمون