تونس: تشوّهات خَلقية فتنمّر

تونس: تشوّهات خَلقية فتنمّر

30 يونيو 2021
نسرين بو عزيز: أعمل اليوم بكلّ ثقة (العربي الجديد)
+ الخط -

يواجه الأشخاص الذين يعانون تشوّهات خَلقية مضايقات مختلفة، خصوصاً هؤلاء الذين تبدو تشوّهاتهم ظاهرة ولافتة، في تونس كما في كلّ أنحاء العالم. وتندرج تلك المضايقات في إطار التنمّر الذي يبدأ في الغالب بالمدرسة حيث يحتكّ الطفل بالمجتمع على نطاق واسع للمرّة الأولى. ويتعرّض إلى اعتداءات لفظية أو تعليقات سلبية من قبل زملائه الصغار، الأمر الذي يخلّف عواقب سلبية قد تستمر تبعاتها مدى الحياة، علماً أنّ ثمّة أشخاصاً قد يتجاوزونها ويواصلون بالتالي حياتهم بشكل عادي.

قضايا وناس
التحديثات الحية

نسرين بوعزيز محامية تونسية تعاني من تشوّه خَلقي بسبب خلل في الأوعية الدموية في الجهة اليُمنى من وجهها. وكغيرها من الذين يحملون تشوّهات في الوجه خصوصاً، اضطرّت إلى مواجهة تعليقات سلبية كثيرة منذ إلحاقها بإحدى رياض الأطفال. تخبر بوعزيز "العربي الجديد": "لاحظت منذ اليوم الأوّل لدخولي الروضة نظرات الاستغراب في أعين الأطفال وقد تجمّعوا حولي وراحوا ينظرون إلى تلك الألوان المختلفة في وجهي. وقد أزعجني الأمر كثيراً". تضيف بوعزيز أنّ "الأمر تواصل بالتأكيد في المدرسة ثمّ في المعهد والجامعة، أي في كلّ مراحل الدراسة. ولعلّ أكثر التعليقات سلبية، كنت أتعرّض إليها في الشارع. وأحياناً، حتى في غياب أيّ تعليق شفهي، كانت تكفي النظرات التي ترمقني بغرابة وما تخلّفه من ألم أو انزعاج نفسي". وتلفت إلى أنّ "ثمّة نساء في الشارع يسألنَ عمّا توحّمت عليه أمي لأكون بهذا الشكل".

الصورة
نسرين بوعزيز في تونس 1 (العربي الجديد)
نسرين عبد العزيز هزمت الإنعزال (العربي الجديد)

قصّة بوعزيز اليوم هي قصّة نجاح وتحدّ. على الرغم من كلّ ما تعرّضت إليه من انتقاد ونظرات ساخرة كانت تحبطها وتدفعها إلى الانعزال عن المجتمع، فقد تفوّقت وصارت اليوم محامية. وتؤكّد بوعزيز: "أعمل اليوم بكلّ ثقة ولا أشعر بأيّ قلق أو انزعاج، لا سيّما أنّني وكثيرين غيري ممّن يحملون تشوّهات تحدّينا السلبيات ونجحنا في الإفصاح عمّا تعرّضنا له من تعليقات وسخرية. ولم يثننا كلّ ذلك عن النجاح والتفوّق". وتؤكد: "كنت أتحدّى كلّ سخرية بالاجتهاد أكثر في الدراسة لأصير محامية، وأنا اليوم أحضّر رسالة الدكتوراه". وتقول بوعزيز إنّ "مجتمعنا يضع مقاييس معيّنة للجمال تنشأ عليها الأجيال. حتى في رسوماتنا، نحدّد مقاييس معيّنة تجعل الطفل ينشأ على عدم قبول أيّ اختلاف من خارج تلك المقاييس". 

تضيف: "اليوم أؤسّس مع تونسيين آخرين يحملون بعض التشوّهات الخَلقية، جمعية هدفها التوعية بالاختلاف وبضرورة قبول الآخر كيفما كان، بالإضافة إلى التوعية بأهمية إعداد برامج تعليمية تولي أهمية كبيرة لمسألة قبول الآخر باختلافاته".

الصورة
نسرين بوعزيز في تونس 3 (العربي الجديد)
نسرين بوعزيز تغلبت على عاهة التشوه (العربي الجديد)

قليلون هم الذين يتجرّأون على الحديث عن تجاربهم مع التنمّر وقسوة ما يستهدفهم بسبب تشوّهاتهم. فالغالبية تعاني بصمت لاقتناعها بأنّ الحديث لن يغيّر شيئاً طالما لن تتغيّر العقلية أو تنشئة الأجيال. 
من جهتها، تشير رفيقة بوغنامي لـ"العربي الجديد" إلى أنّها رفضت سابقاً الحديث في أكثر من مرّة، عندما حاولت وسائل إعلام عدّة محاورتها حول تشوّه صغير في وجهها وما خلّفه من ألم في نفسها. تقول بوغنامي: "الأمر بالنسبة إليّ لن يغيّر الكثير، طالما لم تتغيّر الطريقة التي ننشأ عليها والتي لا تقبل باختلاف الآخر وبأنّ التشوّهات اختلاف وليست عاهة للاستهزاء". وتخبر بوغنامي: "تركت مقاعد الدراسة بسبب ما كنت أتعرّض له من تنمّر من زملاء المدرسة خصوصاً. وكنت أقضي معظم وقتي في عزلة عن العالم الخارجي لتفادي أيّ تعليقات. وبعد بلوغي مرحلة الشباب، قرّرت الخروج للعمل ومواجهة المجتمع، لكنّني صُدمت كذلك بتعليقات الناس في الشارع. وتعليقات الكبار أتت أشدّ قساوة من تلك التي واجهتها من قبل الصغار في طفولتي. وبتّ أرتدي نظّارات كبيرة وأسدل شعري على الجانب الأيسر من وجهي لأخفي تلك البقعة السوداء على خدّي، فلا أرى نظرات الناس القاسية أو حديثهم وتعليقاتهم".

الصورة
نسرين بوعزيز في تونس 2 (العربي الجديد)
نسرين بوعزيز محامية تونسية بارعة (العربي الجديد)

في هذا السياق، يقول المتخصص في علم النفس الاجتماعي أسامة بن علي لـ"العربي الجديد" إنّ "التنمّر ظاهرة سلبية جداً ويواجهها أصحاب التشوّهات الخَلقية أو المصابين ببعض الإعاقات. فكلّ شخص مختلف يعاني صعوبة في التأقلم والاندماج في المجموعات منذ دخوله إلى المدرسة التي تمثّل الحلقة الأولى للاختلاط بالمجتمع". يضيف بن علي أنّ "عبارات السخرية والنظرات التي يواجهها يومياً صاحب التشوّه تعمّق أزمته النفسية وقد تنتج عنها سلبيات من الممكن أن تدفع بعض الأشخاص أحياناً إلى الانعزال وتجنّب الخروج والاختلاط بالآخرين". ويتابع بن علي أنّ "التذمّر قد يدفع عدداً من الأشخاص إلى التفكير في الانتحار".

قضايا وناس
التحديثات الحية

ويؤكد بن علي أنّ "التنشئة الأسرية وغياب البرامج التربوية التوعوية من أسباب ظهور مثل تلك السلوكيات السلبية التي تؤثّر على نفسيّة الآخرين، بالإضافة إلى عدم تكوين الكوادر التربوية لتجاوز مثل تلك التصرفات السلبية بين التلاميذ، خصوصاً صغار السنّ في المراحل التعليمية الأولى". ويلفت بن علي إلى أنّ "المجتمع بصورة عامة لا يقبل تلك التشوّهات، وحتى لو لم تصدر أيّ تعليقات لفظية، تكفي نظرات الاستغراب لتسبّب ألماً نفسياً".

المساهمون