مدارس تونس... سلوكيات عنيفة ومناهج جامدة

مدارس تونس... سلوكيات عنيفة ومناهج جامدة

03 ديسمبر 2021
يتعرض بعض تلاميذ تونس للعنف في المدرسة (ياسين قايدي/الأناضول)
+ الخط -

تواترت حالات عنف في مدارس تونس، في الآونة الأخيرة، ما أثار نقاشاً بين من يعتبرون التلميذ ضحية منظومة تربوية سيئة ناتجة من عجز وزارة التربية عن الإصلاح، وبين من يحملون العائلات المسؤولية نظراً لتخليها عن دورها، والذي يفرز جيلاً يفتقر إلى العديد من القيم. ودق ناقوس الخطر مجدداً بعد حادثة معهد ابن رشيق الزهراء بضاحية تونس، حيث قام تلميذ (17 سنة)، في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بطعن أستاذه بسكين لأنه رفض إعادة اختبارات تغيب عنها. نجا الأستاذ من موت محقق بعد أن خضع لعدة جراحات، ويقبع التلميذ حالياً في إحدى إصلاحيات مدينة المروج بالضاحية الجنوبية للعاصمة. وفي 16 نوفمبر، قرّر مجلس تأديب طرد تلميذ بمعهد في حي النصر، بعد أن ظهر في فيديو على موقع "فيسبوك"، وهو يلقي ملابس داخلية على أستاذه، كما تداول تونسيون يوم 17 نوفمبر، مقطع فيديو يظهر تلاميذ يقومون ببث مباشر عبر "فيسبوك" من داخل المدرسة، ويسخرون فيه من الأساتذة بترديد كلمات بذيئة.

لكن ضحايا العنف المدرسي ليسوا دائماً من المعلمين، فهم بدورهم يمارسون عنفاً على التلاميذ، وفي 18 نوفمبر الماضي، تسبب معلم من القيروان في كسر أصابع تلميذة في الصف الثالث بعد ضرب مبرح بعصا. تقول المتخصصة في علم النفس بوزارة التربية، أميرة بوعلي، لـ"العربي الجديد"، على هامش مؤتمر "بحث ظاهرة العنف في الوسط المدرسي" الذي نظمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" مؤخراً، إن "هناك عوامل عدة تسهم في تفشي العنف، والعلوم النفسية والإجتماعية تتناول الموضوع من زوايا مختلفة، ومنها أن العنف نوع من إضطرابات السلوك، وأنه عادة يتم من خلال التقليد أو التحفيز، كأن يرى الطفل والديه، أو مدرسه، أو أشخاصًا في محيطه، يمارسون العنف لإنهاء مشاكلهم، فيقوم بتقليدهم". وأضافت بو علي أن "هناك انفعالات وأحاسيس سلبية يعيشها الطفل، وإن لم يجد الآليات اللازمة للتعامل معها فإنها تظهر عبر سلوكيات عنيفة، والإحباط والتمييز وعدم الاستماع إلى مشكلات الطفل، أو عدم قدرته على إبداء رأيه، فضلاً عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي إلى عدم تلبية حاجاته، وكذلك التعرض للصدمات التي لا يتم التعهد بها، كل هذا يجعله يبدي سلوكيات عنيفة، والعنف المدرسي يصنف في الغالب كجريمة بدلاً من تصنيفه كاضطراب يخفي معاناة الشخص، كما أن التلميذ العنيف يعامل عادة كمجرم يستوجب العقاب".
وتلفت بو علي إلى أن "كثافة البرامج الدراسية، واللجوء إلى التلقين، واكتظاظ الفصول، كلها أيضاً قد تؤدي إلى شعور التلاميذ بالإحباط، مما ينتج سلوكيات عنيفة، فضلاً عن تراجع الاهتمام بالصحة النفسية داخل المدارس، إذ إن هناك عددًا محدود جداً من المتخصصين في علم النفس العاملين في وزارة التربية التي تتعامل مع نحو مليوني تلميذ، والمعدل القائم هو متخصص في علم النفس واحد لكل 20 ألف تلميذ". وترى الباحثة في علم الاجتماع، إيمان بن دعدوش، أن العنف المدرسي كان موجوداً دائما، لكن هناك تغيرات حصلت خلال السنوات الأخيرة، مؤكدة لـ"العربي الجديد"، أن "تفشي العنف في المدرسة يعكس ما يحصل في المجتمع، ويعبر عن التحولات المجتمعية، فالمدرسة ليست بمعزل عن المجتمع بل مرآة له. هناك متطلبات جديدة للتلاميذ، تشمل البحث عن الاعتراف بهم، وحقهم في الاختلاف، ورفض الإهانة من المعلمين، كما أن كثيرين منهم يعانون من توتر أو فتور في علاقتهم مع معلميهم".

الصورة
تفاعل المدرسة مع مشكلات التلميذ باتت ضرورة (فتحي بليد/فرانس برس)
تفاعل المدرسة مع مشكلات التلميذ بات ضرورة (فتحي بلعيد/ فرانس برس)

وتشير بن دعدوش إلى ضرورة طرح سؤال: كيف يعيش الأطفال في المدرسة؟ موضحة أن "المدرسة باتت منتجة للعنف، فيما هناك اعتقاد سائد أن الأستاذ يعنف تلاميذه بغرض الحصول على نتيجة جيدة، بينما هذا الجيل يستقبل العنف بطريقة مختلفة، وتغيرت تصوراته عن الأجيال السابقة، وحل البحث عن الاعتراف المجتمعي محل التصور المدرسي القديم المعتمد على تلقين المعرفة".
بدوره، يرى أستاذ علم الاجتماع، صلاح الدين بن فرج، أن "طبيعة الفترة الحالية تساهم في تكرار حوادث العنف في الوسط المدرسي التونسي، فالمجتمع يغلب عليه التوتر، والأوضاع تتسم بالضبابية، وبغياب الرؤية وإنسداد الأفق المستقبلي"، مضيفاً لـ"العربي الجديد"، أن "الشباب، وخصوصاً التلاميذ منهم، تؤثر عليهم هذه الضغوط، وعادة هم أكثر تجسيداً للواقع غير المستقر، والحلقة الأضعف في المعادلة، إذ لا أحد يدعمهم، فلا نقابات ولا جمعيات، على عكس الأساتذة".
ويوضح أنه أصدر كتاباً حول "العنف المدرسي" بمشاركة مجموعة من الخبراء ومتعاونين مع وزارة التربية، وتم من خلاله تأكيد أن "60 في المائة من العنف يقع داخل الصف المدرسي، وأن 80 في المائة من المحالين إلى مجلس التربية لاتخاذ عقوبات بحقهم من أبناء الطبقات الفقيرة، وأن المشكلة بين الأستاذ والتلميذ تتفاقم، ويجب التدخل فيها، كما أن تجاهلها يؤدي إلى زيادة التوتر وصولاً إلى الصدام المباشرة".
وبين بن فرج أن "الجميع مسؤول عن ظاهرة العنف المدرسي، سواء في ذلك الأسرة والمدرسة والمجتمع ووزارة التربية، والظاهرة مركبة، فأحياناً لا توجد مقاربة نعرف من خلالها من هو المتضرر ومن المعتدي، وبينما المدرسة متفطنة لضرورة التغيير، لكن المفارقة أنها لا تتقوم باتخاذ أية خطوات للتغيير، وتحافظ على نفس التقسيم التقليدي".

المحيط المدرسي يساهم في زيادة العنف (ياسين قايدي/الأناضول)
المحيط المدرسي يساهم في زيادة العنف (ياسين قايدي/الأناضول)

ويؤكد الخبير التربوي، معز الدريسي، لـ"العربي الجديد"، أن "هناك أسباباً مباشرة للعنف المدرسي، لكن المدارس لا تشتغل بشكل مستقل عن السياسات الحكومية، فهناك سياقات سياسية تجعل للصراعات القائمة في المجتمع تأثيرًا على السلوكيات في المدارس، وهناك نوع من التفاعل بين الأسباب السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وبين طريقة اشتغال المدرسة، والحلول لا يمكن حصرها في القيام بإصلاحات تربوية، بل بطرح رؤية مجتمعية مشتركة تساهم كل الأطراف في توفير الإجابات اللازمة للأزمة التي تعيشها المدرسة".
ويشدد على أنه "يتم تضخيم الحوادث المدرسية، وأصبح هناك نوع من المبالغة في بعض الوقائع، وبيما لا توجد مؤسسة أو تجمع بشري من دون حوادث، فإنه من المفترض عدم تضخيم ما يحصل بالمدارس أيضاً، كما أن النظرة إلى العنف لا تخلو من التصنيفات، ومن التنمر، وهناك تراكم للدلالات، ولابد من تحليل المفاهيم لفهم الظاهرة، فالعنف الحقيقي ليس ما هو مكشوف لنا، بل الأخطر هو الاعتداء ات الصغيرة، وتكرارها الذي يخلق أجواء مشحونة، والمناخ المدرسي مناخ مشحون، وعلينا العمل على تحسينه".
وتقول رئيسة جمعية "تلامذتنا"، بشرى الطيب، لـ"العربي الجديد"، إن الجمعية مهمتها الدفاع عن حقوق التلاميذ في الوسط المدرسي، مشيرة إلى أن "العنف يقوم به التلميذ الذي لا يجد من ينصت له في البيت، وفي المجتمع، وفي المدرسة، والمحيط التربوي يمثل خطراً على التلاميذ، ويجعلهم عرضة لمخاطر السلوكيات المتطرفة والعنيفة، وقد لاحظنا خلال السنوات العشر الأخيرة، أن التلاميذ يتعرضون لسلوكيات وألفاظ عنيفة من الأسرة والمحيط، ومن المعلمين، ونستقبل العديد من المكالمات والملفات التي تكشف تعرض تلاميذ لعنف، وتعرض معلمين للتعنيف". وتشير إلى أن "المؤسسة التربوية إقصائية، والمناهج محبطة، وهناك ما يمكن اعتباره حملة ممنهجة لتشويه صورة التلميذ، فالتلميذ الذي يحاول التعبير عن نفسه من خلال الملابس أو طريقة تصفيف الشعر وغيرها يواجه بعنف داخل المدارس".

من جهتها، تؤكد المسؤولة البيداغوجية في وزارة التربية، سامية المدني، لـ"العربي الجديد"، أن "وزارة التربية تعمل حالياً على نموذج يسمى المنهاج العام، ويركز على التلميذ الفاعل، وعلى المهارات الحياتية، وقد يساعد على تفعيل دور التلميذ في المؤسسة التربوية، ليكون نموذجاً للمواطن المتحضر والمفكر والمنتج، مع ترسيخ الانتماء، والتعريف بالتراث والهوية، لكن لا يزال هذا المنهاج في طور التجربة". يُشار إلى أن فرع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في تونس، نظم مؤخراً، مؤتمراً حول العنف في الوسط المدرسي، وقال مدير المركز، مهدي مبروك، خلال فعاليات المؤتمر، إن "المدرسة مهما كانت حصانتها، ليست قلعة محصنة، لأن العنف في الشارع، وفي الوسط السياسي ينتقل إليها، ولا بد أن تتضافر الجهود للحد من الظاهرة، والتي لا يمكن القضاء عليها نهائياً.

المساهمون