مراجعة مدونة الأسرة في المغرب: امتحان التوفيق بين الديني والكوني

مراجعة مدونة الأسرة في المغرب: امتحان التوفيق بين الديني والكوني

28 أكتوبر 2023
من التعديلات المقترحة منع زواج القاصرات وضمان حقوق النساء كافة (عبد الحق سينا/ فرانس برس)
+ الخط -
تدخل ورش مراجعة مدونة الأسرة (الأحوال الشخصية) في المغرب مرحلة حاسمة خلال الأيام المقبلة، بعدما برمجت اللجنة المكلفة بتعديلها عدداً من المواعيد لاستقبال ممثلي جمعيات وتنسيقيات مُهتمة بقضايا النساء والأسرة، في وقت تبدو فيه مهمتها بالغة الحساسية، لما تواجهه من تحديات متعلّقة بالتوفيق بين الخصوصية المحلية والمرجعيات الكونية.
وبينما ينتظر أن تشرع اللجنة التي أُسند إليها الإشراف العملي على إعداد إصلاح المدونة، بشكل جماعي ومشترك (وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة)، في عقد جلسات مع الجمعيات والتنسيقيات المهتمة بقضايا النساء والأسرة ابتداء من الشهر المقبل، كان لافتاً تحديد العاهل المغربي الملك محمد السادس، في رسالة وجهها إلى رئيس الحكومة عزيز أخنوش، في 26 سبتمبر/ أيلول الماضي، حدود تلك المراجعة، حينما أكد أنها يجب أن تقتصر على إصلاح الاختلالات التي أظهرها تطبيقها القضائي على مدى حوالي عشرين سنة، وعلى تعديل المقتضيات التي أصبحت متجاوزة بفعل تطور المجتمع المغربي والقوانين الوطنية.
وشدّد العاهل المغربي على أن الاجتهاد البنّاء هو سبيل تحقيق الملاءمة بين المرجعية الإسلامية والمستجدات الحقوقية العالمية، وأن "المرجعيات والمرتكزات تظل دون تغيير. ويتعلق الأمر بمبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام، النابعة من ديننا الإسلامي الحنيف، وكذا القيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب".
 
يجب أن تقتصر على إصلاح الاختلالات التي أظهرها تطبيقها القضائي على مدى حوالي عشرين سنة، وعلى تعديل المقتضيات التي أصبحت متجاوزة بفعل تطور المجتمع المغربي والقوانين الوطنية
 

مدوّنة الأسرة: تحديث المجتمع 

وكان صدور مدوّنة الأسرة في عام 2004 قد شكل حدثاً بارزاً، وأقوى تعبير عن الاستجابة للرغبة في تحديث المجتمع، والنهوض بأوضاع الأسرة وتحقيق توازنها، وحماية حقوق المرأة والطفل، وتحقيق المساواة بين المرأة والرجل، وإعادة الاعتبار لمؤسسة الزواج ولمسؤولية طرفيها معاً.
واحتلت المدونة منذ دعوة العاهل المغربي في خطاب العرش يوم 30 ‏يوليو/ تموز 2022 إلى مراجعة القانون المنظم للأسرة حيزاً مهمّاً في النقاش العام الذي دار بالمغرب، بعد ‏مطالبة عديد من الهيئات والمنظمات بمراجعة القوانين التي تنظّم أحوال الأسرة، بعد ما يقارب عقدين من ‏تجربة المدونة، انسجاماً مع روح دستور 2011 ومسايرة للتحولات التي يعيشها المجتمع.
وفي خضم النقاش الدائر حول المدونة، حدّدت الجمعيات النسائية والحقوقية تعديلات مقترحة في موضوعات، من بينها الميراث، والوصية، والإرث بالتعصيب، والكد والسعاية، وميراث الأجانب، وزواج القاصرات، وزواج المغربيات المسلمات بغير المسلمين، وحضانة الأطفال بعد الطلاق، وحق الزيارة، والتعويض عن المسكن، والنيابة الشرعية، والطلاق للضرر، وفترة ما قبل الطلاق، والنسب، والنفقة، والمتعة.
تقول الكاتبة الوطنية لمنظمة "النساء الاتحاديات"، حنان رحاب: "منذ خطاب العرش لـ 2002 ونحن ننتظر ترجمة توجيهاته ووضع خريطة طريق لتنزيل أمثل لتعديلات مدونة الأسرة يتجاوز الاختلالات الحالية. اليوم، نرى أن جلالة الملك قد حسم الجدل حول آلية التعديل، بالدمج بين الاختيار الديمقراطي، من خلال جعل التعديل يمرّ من القناتين الوزارية والبرلمانية والمقاربة التشاركية بالانفتاح على المجتمع المدني والمتخصصين والمؤسسات التي يمكن أن تكون لها علاقة بهذا الملف.
 
تعديلات مقترحة في موضوعات الميراث، والوصية، والإرث بالتعصيب، والكد والسعاية، وميراث الأجانب، وحضانة الأطفال بعد الطلاق
وتضيف أن "الانطلاق من الخبرات القانونية والقضائية المتوفرة عند وزارة العدل ورئاسة النيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية سيساهم في ربح الوقت وتفادي الصياغات والأخطاء القانونية عند بناء الأرضية القانونية والتشريعية الملائمة. نحن أمام مقاربة بمداخل ثلاثة: ديمقراطية وتشاركية وعلمية".
وتوضح رحاب أن مدونة الأسرة حين أُقرّت قبل حوالي 20 سنة كانت تمثل ثورة ثقافية واجتماعية، وواحدة من عناصر العقد الاجتماعي الجديد القائم على الحداثة والديموقراطية"، مشيرة إلى أن النقاش الذي أطلقه الملك قبل سنة حول تحيين وتطوير المدونة، هو عنوان آخر على أن مسيرة التحديث شهدت طفرات فرضت تعديل المدونة لكي تستجيب للتحولات في المجتمع الذي عرف تحوّلاً في نسقه العام لصالح حقوق النساء، يشهد عليه تنامي مشاركة النساء في الشأن العام بمختلف مناحيه.
وتضيف: "باعتبارنا منظمة نسائية تابعة لحزب اشتراكي يساري حداثي، نعتبر أن المدونة الحالية تحتاج إلى مراجعة شاملة، لأنها أصبحت متجاوزة. أعتقد أن بلادنا قادرة على الخروج بنص جديد يستجيب لأفق المساواة الشاملة والإنصاف، عبر آليات الحوار والإنصات والتوافق، لأننا نؤمن أن الحداثة والحقيقة والفضيلة لها أوجه وتعبيرات مختلفة، ولأننا لا نؤمن بتنميط المجتمع في قالب واحد واعتباره هو الحق، كما يقع في بعض المجتمعات، ومنها التي تدّعي أنها رائدة العلمانية والحداثة".
قضايا وناس
التحديثات الحية
 

مراجعة مدونة الأسرى في المغرب مبينة على المساواة في الحقوق

من جهتها، ترى رئيسة "فيدرالية رابطة حقوق النساء"، سميرة موحيا، أن المراجعة يتعين أن تكون مبنية على قاعدة المساواة في الحقوق وضرورة ملاءمتها مع الدستور المغربي والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ذات الصلة، وكذلك الأخذ بعين الاعتبار العديد من المرتكزات الأساسية منها التحولات التي طرأت على البنية السوسيو اقتصادية للمجتمع المغربي، ووجود النساء في جميع المجالات الاقتصادية وتحملهن مسؤولية تسيير أسر وإعانتها وتنمية مواردها.
ووفق موحيا، فإن هذا الوضع يساءل مفهوم "القوامة" التقليدي الذي ما زال موجوداً في مدونة الأسرة ويتعارض ويتناقض مع مبدأي المساواة والمناصفة اللذين اعتمادهما دستور 2011، مؤكدة ضرورة ملاءمة التشريعات الوطنية مع منظومة حقوق الإنسان، والأخذ بعين الاعتبار المقتضيات الواردة في الدستور، خاصة ما يتعلق بسمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية، وما ينص عليه الفصل 19 من المساواة التامة بين الرجال والنساء في جميع المجالات، وكذلك التوجه نحو فعلية الحقوق والواجبات والمواطنة. 
وتشدد، في حديث لـ"العربي الجديد"، على ضرورة "انطلاق مراجعة المدونة من معيار أساسي هو واقع معاناة النساء المغربيات وليس الفقه التراثي القديم وقواعده الذكورية التي كان لها في زمن سابق ما يبررها"، لافتة إلى حاجة البلاد إلى مدونة أسرة تكون صياغتها قانونية واضحة تحترم كرامة النساء وتضمن انسجام بيوتها، وتحذف كل الصيغ والمواد المبنية على التشييء والدونية والتمييز بسبب الجنس أو الدين، التي تمس بالكرامة الإنسانية للنساء.
 
المراجعة يتعين أن تكون مبنية على قاعدة المساواة في الحقوق وضرورة ملاءمتها مع الدستور المغربي والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان
وتتابع: "يتعين أن تكون المدونة الجديدة قانوناً متناسقاً ومنسجماً يضمن الاستقرار الأسري والمساواة بين الجنسين في الحقوق والرعاية والمسؤوليات، ويراعي المصلحة الفضلى للأطفال. كما يأخذ بعين الاعتبار أن حقوق النساء وتمتعهن بها لا تتعارض مع تناسق واستقرار الأسرة كما يروج لذلك التيار المحافظ".
وترى أن من المقتضيات التي يتعين الأخذ بها بعين الاعتبار في عملية المراجعة حذف الفصل 400 من المدونة الذي يحيل على المذهب المالكي، وأن تكون الإحالة، بالمقابل، على الاتفاقيات الدولية وفلسفة الدستور المغربي، واعتماد مبدأ المصلحة الفضلى فيما يتعلق بالأطفال، وإعادة تعريف الزواج. وكذلك إلغاء زواج القاصر وحذف المادة 16 من مدونة الأسرة التي تنص على أن يكون عقد الزواج هو الوسيلة الوحيدة لإثبات الزواج، وجعل النفقة من مسؤولية الزوجين معاً وليس الزوج وحده، حسب دخلهما واتفاقهما، واعتبار أعمال الرعاية التي تؤديها النساء اللائي لا يشتغلن خارج البيت مساهمة في النفقة. 
 

حق الولاية على الأبناء في صلب النقاش

ومن المقتضيات التي ترى موحياً ضرورة تضمينها في المدونة الجديدة إيلاء الاعتبار للمصلحة الفضلى للطفل في الحضانة وإمكانية اتفاق الأبوين بعد الطلاق على الحضانة المشتركة، واعتماد مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في الاحتفاظ بالحضانة، ولو بعد الزواج، وكذلك جعل الولاية القانونية على الأبناء واجباً مشتركاً بين الزوجين خلال قيام العلاقة الزوجية، واعتبارها في حالة الطلاق حقاً للحاضن.
بالإضافة إلى مراجعة منظومة المواريث بما يحقق العدل والمساواة بين الجنسين  واحترام مبدأ إرادة الشخص (الوصية) وإلغاء مبدأ التعصيب واعتبار الاختلاف في الدين من موانع الإرث. 
 
ضرورة سنّ مواد ونصوص واضحة توفر الحماية للأطفال في النسب بغض النظر عن وضعية الأبوين
بدوره، يعتقد المحامي والرئيس العام لـ"أكاديمية التفكير الاستراتيجي درعة تافيلالت" صبري الحو، أن مراجعة المدونة فرصة لا يتعين تركها تمر دون تحقيق مصالح فئات مجتمعية عدة تنتظر الإنصاف والعدالة وملاءمة النصوص مع سرعة تطور المجتمع وتطلعات جزء منه لعيش واقع الحداثة في علاقة بالحقوق الفردية والجماعية. 
ويرى في تصريح لـ"العربي الجديد " أن موضوع المرأة من المواضيع التي تحتاج إلى جرأة خاصة في ما يتعلق بالولاية على الأولاد القاصرين، لتكون في المركز والمرتبة مع الأب، موضحاً أنه لم يعد مقبولاً سماع معاناة الأمهات في هذا الأمر مثلما لم يعد مسموحاً استمرار ابتزاز الأزواج لزوجاتهم أو لمطلقاتهم في حق الولاية. 
ويشدد على ضرورة سنّ مواد ونصوص واضحة توفر الحماية للأطفال في النسب بغض النظر عن وضعية الأبوين في الزواج أو الإقرار أو حتى قيام الخطوبة وغيرها، وأن تكون العبرة في النزاع بالخبرة العلمية. إلى جانب، توفير أولوية الحماية لهم أثناء الطلاق بالبحث الجدي عن المصلحة الفضلى لهم، وفقاً للاتفاقية الدولية الخاصة بحقوق الطفل.
من جهة ثانية، يعتبر الحو أن موضوع المهاجرين يعد من المواضيع التي يتعين عدم تغافلها وتجاهلها كما يقع في كل مرة، بعد أن "تحملوا طويلاً بسبب تغافل السياسات العمومية والعامة لهم"، مضيفاً: "لا مجال للسهو ولا مكان لتجاوزه. يجب المرافعة لصالحهم والتركيز في طرح حقوقهم واستحضار همومهم بما يحقق فائدة لهم ويدفع مشكلاتهم والأضرار التي تلحق بهم، في مساطر الزواج والطلاق والوكالة والإرث عبر تبسيط المساطر أمام هذه الفئة ومراعاة وضعهم في آجال ممارسة الإجراءات أو الطعون وإعطاء صلاحيات كبرى للمراكز القنصلية في ما تنجزه من أعمال ومحاضر، وإعطاؤها القوة الثبوتية وفي انتداب قضاة بالصلاحيات أو جلسات تنقلية الى القنصليات للبث في قضايا المهاجرين والمرتبطة بأحوالهم الشخصية".
وبحسب الحو، فإن المدونة تحتاج إلى جرأة وشجاعة وكفاءة، لا سيما أن مهمة مراجعتها أمانة صعبة وجسيمة ومعقدة وتحتاج إلى احتواء إرادات كل المغاربة. ويضيف: "على المدونة أن تبدأ في تنظيم ما توافق عليه المغاربة وتطبعوا معه من أمور، وعدم إكراههم على أمور تبدو غريبة ومستوردة، قد تغير معدنهم الأصيل".

المساهمون