يوميّات الحرب في غزّة (13)

يوميّات الحرب في غزّة (13)

25 نوفمبر 2023
فلسطيني يدفع درّاجته بين أنقاض مبانٍ دمّرها قصف إسرائيلي في غزّة (24/11/2023 فرانس برس)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(21 نوفمبر)

رحلة صعبة وصعبة جدّاً

كان العبور من الشمال إلى الجنوب مثل نكبة جديدة. طوفان بشري يعبُر الوادي في بحثٍ عن خلاص مؤقت. الجنود جهة الطريق الشرقية يراقبون من دبّاباتهم وثكناتهم ومن خلف نواظيرهم كلّ شيء يتحرّك، والناس المفزوعين يأكلهم القلق مما قد يحدُث، ينتظرون أن تنتهي الرحلة وأن يتمّوا المسير. كلّ شيء يثير الخوف والرعب، خصوصا حركة الجيبات العسكرية ووجوه الجنود ونظراتهم المستفزّة والعبارات النابية التي يصرُخ بها الجندي فوق دبّابة المراقبة، وهو يعطي تعليماته للناس كيف يسيرون، وفي أيّ اتجاهٍ يتحرّكون. حتى أشجار الكينيا بدت تنزف جرّاء القذائف الكثيرة التي ضربت جذوعها. العبور في الطريق إلى الطريق وعبر الطريق إلى لا طريق، إلى مجهولٍ لا يعرفه أحد.

نزلْنا عند دوّار الكويت في شارع صلاح الدين. هذه آخر نقطةٍ يمكن للسيارة أن تقطعها. في الطريق من المخيّم إليه، عبرنا من شارع يافا في حيّ التفاح، ثم انعطفنا قرب مستشفى الدرّة إلى شارع صلاح الدين من جهة الشجاعية، ثم واصلنا قطع الشارع باتجاه الجنوب. عملياً كنّا نسير عبر المناطق التي ما زالت مأهولة، بعد أن جرى إفراغ المدينة وشمالها. آثار القصف في كلّ مكان، والركام العلامة الوحيدة التي تعطي للمدينة شكلاً مميّزاً. الشارع شاحب وبناياته منهكة متعبة، جرّاء الاهتزاز المستمرّ بفعل الصواريخ والقنابل والقذائف. الناس من خلف النوافذ يراقبون بزوغ النهار، حتى يتأكّدوا أنّهم نجوا، حتى يروا أنفسهم في نظرات الآخرين. كلّ شيء حولهم يقول لهم إنّ الليلة كانت أشدّ مما توّقعوا، وأنّهم كانوا أقرب إلى الموت أكثر من قبل.

كان يوسف يقود السيارة قلقاً أيضاً. يريد أن نصل بسرعة، ولكنه يسوق بحذر حتى لا تستهدفنا طائرة أو دبّابة. علينا ألا نثير أيّ نوع من الشبهات. لذلك علينا أن نكون حذرين، ونحاول أن نصل سالمين. كان كلّ شيء يبدو نائماً، فيما القلق والانتظار يتجسّدان في كلّ حركةٍ تصدُر عن أيّ شيء أو أيّ شخص. عند دوّار الكويت، كان الآخرون مثلنا ينزلون من سياراتهم حتى يبدؤوا الرحلة الأصعب في حياتهم. الرحلة حين تكون حياتك مرهونةً بقرار جندي. لا تملك أيّ خيار آخر، فأنت عملياً قد ذهبت، وأدخلت نفسك بين فكّي الذئب، وكلّ ما ترجوه ألا يقوم بابتلاعك وإغلاق فكّيه. ذهبتَ طواعية، بعد أن ضاقت بك السبل، ولم يعد أمامك من سبيل للنجاة إلا أن تجازف بالموت، وأنت تقف بين فكّيه. الكل ينتابه القلق نفسه، والخوف نفسه، وينتظرون مثلك ما سيحدث لهم بعد وقت ليس طويلاً. فقط لو أنهم يُغمضون أعينهم ويفتحونها، ويجدون أنفسهم وقد عبروا الطريق، وخطوا فوق الجسر، وعبروا إلى الجهة الأخرى، حينها يمكن لهم أن يعتقدوا أنّهم نجوا، ولو لحظات. المرء بحاجةٍ لخداع ذاته في بعض المواقف.

يحمل العبور من مكان إلى مكان، ومن جهةٍ إلى أخرى، كلّ أنواع العذاب والتعب من أجل الاقتناع بأنّ المهمّة المستحيلة قد انتهت، والمرء يعرف أنها لم تنته، وأنّ الخطر ما زال وسيظلّ قائماً

يحمل العبور من مكانٍ إلى مكان، ومن جهةٍ إلى أخرى، كلّ أنواع العذاب والتعب من أجل الاقتناع بأنّ المهمّة المستحيلة قد انتهت، والمرء يعرف أنها لم تنته، وأنّ الخطر ما زال وسيظلّ قائماً، وأنّ المرء مهما سعى لن يفلح إلا في تأجيل القدر أو محاولة أن يواصل عنادَه، لعلّ قدراً آخر يُكتب. هذا العبور لا يشبه إلا ركوب موجة الخطر، متمّنياً أن ينام البحر فجأة، أو أن يموت الذئب فجأة، أو تحملك غمامة إلى سماء بعيدة، ثم تهبط منها إلى مكان آخر. أيّ شيء قد يغيّر من الواقع الذي تعيشه، أو يجلب لك واقعاً آخر، حتى لو كان من صنع خيالك، فالخيال أجمل من الواقع في أحيانٍ كثيرة.

كنتُ أتخيّل الموضع الذي قُصفت سيّارة بلال فيه، وأتخيّله مثلي الآن يحاول أن يعبر إلى الجهة الأخرى، وأتخيّل أنّ الجندي في دبّابة مثل التي بدا صوتها مسموعاً بشكلٍ كبير، لم يعجبه بلال، فقصف سيارته، وقرّر أن يضع حدّاً لحياته. أتخيّل اللحظات الأخيرة في حياته. ها هو الآن ينظر إلى الجنوب خلف ظلال أشجار الكينيا، يحاول أن يرى الطريق الذي يتمنّى أن يخطو عليه بعد قليل. ثمّة خطط وبرامج عليه أن يقوم بها بعد أن يعبر الجسر. أتخيّله يحدّث نفسه عن تلك العناقات الطويلة مع أطفاله عندما يصل، والأوقات السعيدة التي سيُمضيها معهم. وأسأل نفسي: ماذا لو قرّر الجندي في الدبابة الآن أن يضع حدّاً أيضاً لكلّ أحلامنا وأمانينا بأوقات أكثر استقراراً حين نعبر إلى الجنوب؟! ماذا لو قرّر أننا يجب أن نتوقّف عند هذا الحد، وأنّنا لن نخطو خطوةً واحدة؟! يمكن أن يقوم بذلك بسهولة، ويمكن له أن يضع نهاياتٍ مختلفة لاحتمالات مختلفة، ويمكن لنا أن نتوقّف عن ذلك كلّه، ونعود لو قرّرنا، لكنه وحده من قد لا يسمح لنا بذلك، إذا أراد منعنا. مرّة أخرى، أعود إلى مزج الخيال بالواقع، والتهيؤات بما يجري حولي. ليست إلا استعادة أخرى لمشاهد سابقة، وما جرى قد يجري، لا شيء يتوقّف، حتى لو قرّرت غير ذلك. كان قراراً سيحكم الغيبُ عليه، لكنني اتّخذته، وعليّ المضي فيه. نظرتُ إلى ابني ياسر، وهززتُ رأسي، كأنّي أقول له: ها نحن نسعى وراء هدفٍ صغير، يتمثل في عبور تلك الكيلومترات القليلة. الطريق المحفوفة بالمخاطر والمليئة بالصعوبات، علينا قطعها من أجل الشعور، ولو مؤقّتاً، بأنّنا أكثر أمناً. أمسكتُ يده. كانت باردةً، وكان القلق بادياً في عينيه، وهو يستعيد ربما تلك الوصايا الطويلة التي تلوْتها عليه ليلة أمس حول ماذا يقول لو أخذه الجنود، وماذا يجيب لو سألوه هذا السؤال أو ذاك. كان وجهُه الصغير منقبضاً من البرد ومن القلق. نظرتُ في عينيه، ثم قلت: الآن بدأت الرحلة. سنصل... لم أكن متيقّناً مما أقول، لكنني أعرف أنني بحاجة لقوله.

الصورة
وسط الدمار في خان يونس
فلسطينية تمسح دموع طفل بين أنقاض مبانٍ دمّرها قصف إسرائيلي في خانيونس جنوبي قطاع غزّة (24/11/2023/الأناضول)

أزمعتُ الليلة الماضية على أنّنا سننتقل جنوباً. القرار الذي ماطلتُ وأخّرتُ تنفيذه أيامًا طوالا، كما يعتقد الجميع. صباح أمس فرّوا، عيشة وماهر والأطفال، بأعجوبةٍ من الموت المحقّق. نفذوا بجلودهم، بالكاد أخذوا معهم الحقائب الصغيرة، وهم يخرجون من البيت لحظة ظهور أول ضوء في النهار. كانوا ينتظرونه ساعات، والقذائف تنهال حولهم، وتسقط على السطح وهم يتخيّلونها تخترق غرفتهم الصغيرة التي تكدّسوا فيها. نزلوا غرباً نحو المخيم، وهم مزمعون على أنهم سيغادرون إلى الجنوب. قالت عيشة: يمكن لنا أن نغادر الآن... تقصد في ذلك الصباح. اقترحتُ أن نفكّر قليلاً. لم تعد مقترحاتي تجد آذاناً صاغية، فالجميع يعتقد أنّ الوقت قد حان من أجل اتّخاذ هذا القرار.

آثار القصف في كلّ مكان، والركام العلامة الوحيدة التي تعطي للمدينة شكلاً مميّزاً

ذهبت لزيارة حميي وحماتي. كان حمي قد قرّر أيضاً أنّ أفضل طريقة لنا أن نخرج. وكانت خطّة في رأسه تقضي أن يذهب، هو وزوجته المريضة، للمبيت في غرفة وسام في المستشفى حتى تنتهي الحرب. وهذا يعني أنّ عليّ نقلهم إلى خانيونس والعبور بهم إلى الجنوب. لا وقت للانتظار. كانت العبارة قلقة، وبدا غير مقتنع، لكن يبدو أنّ هناء تحدّثت معه وأقنعته بأنّ أفضل وسيلة للضغط عليّ هو القول إنهم سيرحلون، وأن ياسر يجب أن يأتي معهم. قبل يومين، كان له رأيٌ مختلف. قلتُ: سأرى ياسر ونفكّر. واقترحت أن يكونوا جاهزين عند السابعة صباحاً. يحاصرني القرار فيما الأخبار تتحدّث عن هدنة وشيكة. ستكون الهدنة فرصةً حتى يتنفّس الواحد منّا وحتى يفكر أكثر. في نهاية المطاف، لا الحربُ يمكن أن تستمر إلى الأبد، ولا أنا يمكن لي أن أبقى إلى الأبد هنا، فلديّ عملي في رام الله، ولديّ متابعاتي واجتماعاتي التي أيضاً لا يمكن أن تنتظر. الحربُ لا تنتظر والحياة لا تنتظر، وأنا يجب ألا أنتظر. رفض والدي فكرة الخروج، وقال إنه سيبقى في البيت، ولن يتزحزح. حاولتُ معه من أكثر من جانب لكنه رفض. وفيما كنت أخرج من باب البيت، قال: "دير بالك على الولد"... يقصد ياسر. بالنسبة لهناء، تريد ابنها، ولا يبدو من الحكمة لي أن أقرّر نيابة عنه، فهو، كما قال لي، عاش ما يكفي من الحرب، ويريد أن يرتاح قليلاً، يريد أن يلتقط أنفاسه. في الجنوب نرتاح، كما قال. لا أعرف كيف يمكن له أو لي أن نرتاح في الجنوب. لكن أيضاً للإنسان طاقة تحمّل. قلت له إذا كان مصرّاً يمكن أن نذهب غداً. هزّ رأسه. قلتُ عليه ألا يتأخّر في السهر، إذ يجب أن ننام حتى نصحو وننطلق. عمل محمّد الترتيبات اللازمة، حيث سيوصِل عيشة وعائلتها وإبراهيم وعائلته عند السادسة ثم يعود. ويوصلنا يوسف مع حميي وحماتي، ويعود بالسيارة ويركنها في شارع الحارة. بات كلّ شيء جاهزاً، حتى ننطلق في الرحلة صباحاً.

بعد أن تصل إلى دوّار الكويت، يجب أن تمشي مسافة أكثر من نصف كيلومتر حتى تصل إلى منطقة الانتظار، حيث يصطفّ الناس بالآلاف في انتظار تعليمات الجندي بالمرور. يستخدم بعضهم عربة يجرّها حمار للوصول إلى تلك النقطة، خصوصًا لحمل الحقائب والأطفال الذين تنتظرهم مسافة طويلة من المشي المتعثّر. استأجرت عربة مغطّاة بشادرٍ يوفّر مساحة إضافية لوضع الحقائب، فالأهم بالنسبة لي أن أضع حماتي المُقعدة على العربة، وهو الأمر الذي بدا صعباً فعلاً. حملتُها ووضعتها على جانبي العربة، وجلس ياسر وحماي بجوارها، كلٌّ من جانب، حتى يمسكا بها. وضعنا الحقائب فوق شادر العربة. وجلس أطفال أخي إبراهيم والبقية، وانطلق الحمار بوهنٍ يعبر الطريق الرملي المليء بالركام وقِطع الباطون والحجارة.

الصورة
جنوب مدينة غزْة
فلسطينيون يعبرون أمام دبّابة إسرائيلية جنوب مدينة غزّة (24/11/2023 فرانس برس)

بعد أن وصلنا، أجلسنا حماتي على عربتها، وتناوبت، أنا وياسر، على دفعها إلى الأمام. كان أخي إبراهيم يُمسك بيد شقيق زوجته الذي يعاني أيضاً من إعاقةٍ لا تسمح له بالتحرّك بشكل سليم. كلّنا نقف بعضنا بجوار بعض، أنا وحمي وياسر وحماتي على العربة، وأخي محمّد وعيشة وماهر وأطفالهما وحموها الأستاذ شوقي وإبراهيم وعائلته وحماته وابنتها، كما كانت زوجة أخي محمد الأولى مع أطفاله وابن أخي نعيم، كنّا كلّنا نقف وسط الآلاف في انتظار إشارة الجندي ببدء المسير نحو المعبر الجديد. انتظرْنا نصف ساعة، قبل أن يقول الجندي من خلف برج الدبّابة إن علينا أن نبدأ بالتوجّه جنوباً. الطريق مليئة بالقاذورات وبالملابس والقماش والحجارة، وفي أماكن مختلفة منها تتجمّع المياه الآسنة، وفي مواضع أخرى تهبط وتعلو. لم تكن طريقاً، كانت دربًا من مخلّفات حربٍ مدمّرة. سرنا قرابة كيلومتر ونصف، نتقدّم سنتيمتراً سنتيمتراً، الأرجل تصطدم بالأرجل، والأجساد تترنّح على الأجساد، والأذرع تعلق بين الحقائب والمتاع المحمول من الآخرين، والأطفال حديثو الولادة يلفح وجوههم برد الصباح، فيما الأمهات يتمسّكن بآخر ما يمكن استعارته من قلوبهن المتعبة من الحبّ والدفء. حقيبتك تضرب بالحقيبة الأخرى، والكيس الذي تحمله يصطدم بأكياس الآخرين. مسير كلّ سنتيمتر منه تخطوه إلى الأمام يعني أن رحلتك باتت أقصر.

نظرتُ في عينيه، ثم قلت: الآن بدأت الرحلة. سنصل. ... لم أكن متيقّناً مما أقول، لكنني أعرف أنني بحاجة لقوله

كان يصعب دفع العربة ذات العجليْن التي تجلس عليها حماتي في مثل هذا الطريق. لذا لم يكن من مفرٍّ إلا حملها. كنتُ أحمل حقيبة العائلة (حيث الصور والأوراق)، وكيساً فيه أغراض حماتي وحقيبة مدرسية صغيرة فيها بعض ملابسي، أنا وياسر، بيدي اليسرى، وأحمل مقبض العربة بيدي اليمنى، لأرفعه عن الأرض، فيما ياسر، الفتى الذي لم يبلغ السادسة عشرة عاما، يحمل المقبض الثاني ويرفعه، وندفع أرجلنا بوهن إلى الأمام. وكلّما تقدّمنا بضعة أمتار، أنزلنا العربة لنرتاح قليلاً. يمرّ عنا الآخرون، ونحن نواصل زحف السلحفاة من أجل الوصول. بعد كيلومتر ونصف، دخلنا غرفة أسمنتيةً، لا تزيد مساحتها عن ثلاثة أمتار بثلاثة أمتار. إنها مقطعٌ آخر من الطريق المليء بالقاذورات والقمامة، وتفوح منه روائح عفن ونتن. داخل الغرفة المفتوحة من الجهة المقابلة، بحيث تبدو كأنّها مقطعٌ من نفق قصير يعبر تلة تعترض الطريق، يعيد جهاز تسجيل على مسامعنا التعليمات "حتى لا نطلق النار عليك" كما يقول الجندي في الجهاز. بعد أن نعبُر الغرفة، نخرج ونصطف في طابور طويل. على يساره ثكنة عسكرية وُضعت على تلّة رملية جرفها الجيش لهذا الغرض، ونصب فوقها خيمةً كبيرة فيها حواسيب وكاميرات وأجهزة مراقبة، وجنود بالعشرات يجلسون خلف طاولاتٍ يراقبون ويدققون في وجوه كلّ المارّين. دبابات وجيبات عسكرية ومدرّعات ودوريات تمشّط حقول الزيتون خلف الثكنة الجديدة. كان على الجميع أن يديروا أوجههم يساراً نحو التلّة التي يُقعي فوقها الجنود، ويرفعوا بطاقاتهم الشخصية. يصرُخ جندي فوق دبّابة مجاورة في الناس "يا جماعة الخير، ارفعوا هوياتكم كويس، عشان ما نعتقلكم". وبالطبع، سينادي، بين فترةٍ وأخرى، على شخص، ويطلب منه أن يتقدّم نحو الثكنة، ويرمي حقائبه في الوحل المجاور، ويجلس على ركبتيه. عشرات كانوا يجلسون على ركبهم في الوحل ينتظرون اختطافهم إلى داخل الموقع العسكري. "إنت اللي لابس أبيض وبنطلون جينز تعال". "إنت المرأة اللي حامل البنت ديري وجه البنت شوية لعنّا". "إنت اللي رجلك ملفوفة تعال"... وهكذا.

واصلت، أنا وياسر، حمل العربة بوهنٍ وتعبٍ مزّقا أذرعنا. رفع ياسر شهادة ميلاده وهوية جدّته. يقول الجندي: "إنت اللي لابس بلوزة كحلي تعال". كان ياسر يلبس بلوزة كحلي. همستُ لياسر ألا يتحرّك ويواصل رفع جدّته، فهو ربّما لا يقصده. نادى الجندي مرّة أخرى، وفعلاً كان يقصد الشاب الذي يسير خلفنا، ولو خرج ياسر لما عاد حتى الآن. قطعنا المائتي متر من الطابور القاهر، ثم وصلنا إلى نهايته، حيث بدأ الطريق مسفلتاً، ما أتاح لنا أن نضع العربة على الطريق ودفعها. على جانبي الطريق، كانت السيارات المقصوفة والمحروقة منتشرة، وكانت الجثث المتعفّنة في داخلها تفوح منها روائح الحرب القاتلة. ذراعٌ ممدّدة من نافذة سيارة. ما زال الخاتم في بنصر اليد، وجسد بلا رأس بدأ يتحلل. وثلاثة شبّان تتكوّم أجسادهم في مقعد خلفي لسيارة. وجثّة امرأة قرب جذع شجرة الكينيا، ورأس ربما لطفلٍ ليس بعيداً عن يدها الممدودة نحو لحظة عناقٍ مفقودة. رائحة الحريق والموت والخراب تدفعانك إلى التعثّر أكثر، وأنت تفكّر في كل هؤلاء الذين ذهبت حياتهم في غمضة عين.

رائحة الحريق والموت والخراب تدفعانك إلى التعثّر أكثر، وأنت تفكّر في كل هؤلاء الذين ذهبت حياتهم في غمضة عين

بعد قرابة كيلومتر آخر، نصل إلى حيث يمكن لنا أن نلتقط أنفاسنا، ونعتقد أننا بدأنا فعلاً بالوصول. صوتُ أزيز الرصاص في المنطقة الغربية، ثم القذائف على امتداد الشارع الواصل إلى مباني كلية الزراعة في جامعة الأزهر. كان علينا أيضاً أن نستأجر عربةً يجرّها حمار من أجل أن نصل بحماتي إلى منطقة السيارات. أغلب الناس يمشون هذه المسافة التي يعبُرون فيها الجسر فوق وادي غزّة، والتي تقدّر بكيلومتر ونصف. وضعنا الحجّة على عربة الحمار، ووضعنا الحقائب، وسرت، أنا ومحمّد، خلف الحمار. حين وصلنا، كان الجميع ينتظر الجميع. كانت عيشة وعائلتها قد وصلت وتنتظرنا، وكان إبراهيم وعائلته قد وصلوا وينتظرونا. فتحت حقيبتي وأخرجت الكيس الذي وضعت فيه حبّات الشوكلاتة التي ادّخرتها للأطفال حين نصل، ووزّعتها عليهم. كانت تلك آخر لحظة سآراهم فيها، إذ من هذه النقطة سينطلق كلّ منا إلى مكانٍ يبحث فيه عن نومه وعن بقية راحته المتعثّرة.

الصورة
رجل على دراجة
فلسطيني على درّاجة بين مبانٍ دمّرها قصف إسرائيلي في بيت لاهيا في قطاع غزّة (24/11/2023/الأناضول)

انطلقت عيشة إلى دير البلح، حيث هناك شقة لسلفتها، ستقيم فيها هي وبقية أفراد العائلة. وانطلق إبراهيم إلى رفح، ليبحث عن مدرسة ومركز إيواء يقيم فيه. وكانت وجهتي المستشفى الأوروبي، حيث سأضع الحجّة والحج عند وسام في غرفة المستشفى. ركبنا مع "أبي الخيزران" في سيارة شحن كبيرة تكدّس فيها عشرات النازحين الذين يرغبون بالوصول إلى الطريق الشرقي لخانيونس. كان الرجل القصير يضع قبّعة بيضاء فوق صلعته، وهو ينادي على الركاب. يحشوهم مثل الأرز في حبّة الكوسا في العربة الواسعة، ويأخذ أجرته منهم فور صعودهم. حملنا الحجّة وهي فوق العربة، ووضعناها في الشاحنة كما هي، ووقف محمد وياسر، كلّ من جهةٍ للإمساك بالعربة. جلست، أنا وحمي، على الكرسي الخلفي، وجلس معنا ثلاثة آخرون، وصرنا محشورين. بالكاد يشعر الواحد منّا بجسده من شدّة الألم. كان أبو خيزران ينادي على الركاب، حين تصل العربة إلى المكان الذي طلبوه. وفي كلّ مرّةٍ، سينزل من السيارة، ليفتح باب العربة الخلفي، لينزل الراكب، ثم سيتجادل معه أنه (الراكب) لم يقصد هنا، بل "إلى الداخل قليلاً". وأبو خيزران هو نفسه أبو خيزران لا يتغيّر لا في "رجال في الشمس" ولا في غزّة. ثمّة ثلاث سيدات يتكدّسن بجواره على المقعد الأمامي. كان هذا أول يوم لهن خارج مركز الإيواء في جباليا منذ 45 يوماً. مررْنا على محلّ لبيع الخضار، وكانت البندورة والخيار والبطاطا معروضة بشكلٍ هندسي مثلث في صناديق البيع. بكت المرأة وهي تشير إلى البندورة، فهي لم تتناولها منذ 40 يوماً، أي بعد خمسة أيام من مغادرتها بيتها الذي جرى قصفه ووصولها إلى مركز الإيواء. كان منظر الخضار يفتح النفس، ويثير شهيّة الأكل. وصلنا إلى المستشفى الأوروبي شرقي خانيونس. أخذ أخي محمّد سيارة ليتوجّه إلى الشابورة في رفح، حيث زوجته الثانية تقيم في منزل عائلة والدها منذ بداية الحرب، وأنا أدخلت الحجّة إلى المستشفى عند وسام. الغرفة ضيقة، ولكن كلّ شيء في الحرب ممكن، وكلّ مكانٍ واسع.

بكت المرأة وهي تشير إلى البندورة، فهي لم تتناولها منذ 40 يوماً

جلستُ مع مدير المستشفى الدكتور ياسر العقاد، الذي كان مشغولاً في ترتيب الحياة داخل المستشفى الذي صار أيضا مركزاً للإيواء. تحدّثنا نصف ساعة، كان خلالها، من فترة إلى أخرى، يجيب على أسئلة الصحافيين عبر الهاتف، ثم ذهبت. تحدّثت قليلاً مع وسام ومع وداد. المستشفى الأوروبي بالنسبة لهما أفضل من مستشفى الشفاء، ففيه مسكّنات تتلقاها وسام، تخفّف عنها الوجع الشديد الذي تحسّ به. أجرى الأطباء لها عملية في ذراعها، وهناك عمليات قادمة في الساق المبتورة. ثم سألتني: وبعدين؟ هززتُ رأسي، وقلت: "لا أحد يعرف هذه البعدين وين بدها تودّينا".

اتصلتُ بصديقي ورفيق دربي مأمون سويدان، الذي تهدّم بيته في تل الهوى، يعيش الآن في خانيونس مع أسرته. أخذتُ سيّارة وذهبت إلى خانيونس المدينة.

(22 نوفمبر)

كانت تلك ليلتي الأولى في الجنوب. ليلة بعيدة عن القصف وانتظار الموت. نمتُ بشكلٍ أقلّ قلقاً. في الليل، كانت الكوابيس تتزاحم والصور تتقافز، والحكايات تتداخل، ودماغي يستعيد الكثير من تفاصيل الأيام الخمسة والأربعين الماضية بألم. فكّرت في الرجل والمرأة اللذيْن اضطرا لترك جثتي طفليهما، حين وقعت عليها القذيفة في الطريق، وواصلا السير والدبّابات ترمي عليهم الحمم في شارع صلاح الدين. حلمتُ بهما في الليل، رأيت وجهيهما مرّة أخرى. سمعتُ صراخ الطفلين. رأيتُ القذيفة تحرق الأرض تحت الأقدام الغضّة. سمعتُ صوت وقع الدمعة من خدّ الأم، وهي تحمل نفسها على الحفاظ على الأطفال الثلاثة الذين تبقّوا لها، وتواصل السير نحو معبر الخروج من الشمال.

نعم معبر.. هكذا أسماه الجندي. سألني ياسر: هل سيكون هذا هو الحل؟ يقصد أن يكون هناك شمال ويكون هنا جنوب... لا أعرف. لكن المؤكّد أنّنا عبرنا من منطقة إلى أخرى، والمؤكّد أننا بتنا في منطقة ثانية غير التي كنّا فيها. عبرنا، ويا له من عبور لا نتمنّاه. في الليل، كنتُ أفكّر في كلّ أصدقائي الذي رحلوا في الدرب، وظلّ الدرب مقفراً أكثر بدونهم، في كلّ الأحبة الذين أخذتهم الحرب، وتركت ذكراهم تكويني، حتى في لحظات الصفو والنجاة التي أبحث عنها. لا نهرُب من مصيرنا، لكننا نراوغه. صورة الأم وهي لا تجرُؤ على النظر إلى الخلف لترى طفليها، وقد مزّقتهما القذيفة تدمي عيني بالدمع، وأنا أحاول أن أغفو تلك الليلة.

نزلت من سيارة الأجرة يوم أمس عند مفترق أبو حميد على مدخل "وسط" البلد في خانيونس. كنّا خمسة غير السائق في سيارة السوبارو الصغيرة. كنت أنا وشخص آخر نجلس على المقعد الأمامي بجوار السائق. تركتُ ياسر ليبيت عند وسام وجدّته وجده ووداد في المستشفى. وقلتُ له إنّني سأذهب للمبيت عند "عمّو" مأمون، وسأعود غداً لآخذه إذا كان الوضع عند مأمون يسمح. تذمر قليلاً، لأنّ هذا يعني أنّ عليه أن ينام على الكرسي لعدم وجود فرشات. كلّ ما استطعنا تدبّره هو سرير من النوع العسكري حتى نضع عليه الحجّة، ثم قرّرنا، في نهاية المطاف، أن تنام الحجّة على الفرشة التي كانت تنام عليها وداد، أفضل لراحتها، وينام حمي على السرير العسكري، وتنام وداد بجوار وسام على سرير المستشفى، وينام ياسر وهو جالس على الكرسي. خيار مؤلم. قلت له: هذا هو الجنوب، ألم تطلب أن نتحرك إلى الجنوب؟... شعرتُ بما يشعر به من مرارة، فقلت له ألا يقلق، سأتدبّر الأمر غداً. ولكن علينا أن نتحمّل في كلّ الظروف وكلّ السياقات. وذكّرته أن اسمه ياسر عرفات، وهذا يعني الكثير. علينا، في مرّاتٍ كثيرة استعارة شعارات البطولة، من أجل أن نكون أكثر مقدرةً على البقاء. الشعارات تنفع، لأنها تعطينا طاقة، رغم وهن أجسادنا. هزّ رأسه وقال: بس بتيجي بكرا... طبعاً.

من يخبر الحرب يعرف آلامها، ومن يعيش لينجو يعرف قيمة الحياة ووقْع الفقد

سرتُ في شارع جلال، وهو أحد أهم شوارع مدينة خانيونس. كان مئات من المواطنين يقفون أمام محل "ويسترن يونيون"، ينتظرون وصول حوالاتهم المالية التي يرسلها إليهم أفراد العائلة في الخارج. مئاتٌ يجلسون على أرصفة الطرقات المحيطة بالمبني الواقع في بناية عالية على ناصية الطريق. كان هذا المشهد فاتحة ما سأراه بعد ذلك في خانيونس اليوم. المدينة التي يبلغ سكانها مائة وخمسين ألفاً بات يسكنها الآن قرابة مليون نسمة، بعد نزوح كلّ سكان المنطقة الشرقية في المحافظة إليها، وبعد تمركُز نازحين كثيرين من غزّة وشمالها فيها، لأنّها أكثر أماكن جنوب الوادي تطوّراً من جهة البنية التحتية، كونها مدينة مركزاً. وخانيونس من البلدات الصغيرة القليلة التي أُعلنت مدينة قبل النكبة. وكان رئيس بلديتها عبد الرحمن الفرّا قد ترك مذكّراته اليومية التي كان يكتبها يوماً بيوم في أكثر من 30 دفتراً، حرّرها المؤرخ والباحث سليم عرفات المبيض في ثلاثة مجلّدات. وعبد الرحمن الفرا ربما الأكثر مدّة بين الذين خدموا رؤساء بلديات في فلسطين، إذا لم تخنّي الذاكرة، فقد استمر في عمله قرابة 30 عاماً، وله فضل كبير في نقل خانيونس من قرية إلى مدينة حقيقية. وكان أوّل من التفت إلى ضرورة توسيع الأماكن الحضرية الفلسطينية لمنع إقامة المستوطنات الصهيونية، فكان يرغب في بناء أحياء سكنية في منطقة المواصي، حتى لا تسمح بريطانيا لليهود ببناء مستوطنات هناك، لكن المندوب السامي رفض. وبعد ذلك، ستثبت رؤية الرجل، حين تقيم إسرائيل أهم مستوطناتها في منطقة المواصي (مستوطنات غوش قطيف).

الصورة
مواطن فلسطيني يستند إلى جدار بعد قصف إسرائيلي في رفح، 20/11/2023 (فرانس برس)
فلسطيني يستند إلى جدار بعد قصف إسرائيلي في رفح جنوب قطاع غزّة (20/11/2023 فرانس برس)

في شارع جلال، حدَث اللقاء الذي مزّق قلبي، والذي ظللتُ بعده هائماً في الشوارع التي لا أعرفها أكثر من ساعتين. قابلت قرب محل "ويسترن يونيون" محمد جاد الله. نعم أخو بلال جاد الله. بكينا معا، ونحن نتعانق ونعزّي بعضنا بعضاً، ونستذكر ألمنا ومصابنا برحيل بلال. قال لي إنه، قبل ليلة، صحا من النوم مفزوعاً، وهو يقول لأمّه إنه فقد في الحلم "ذهباً"، ظلّ يبكي عليه طوال الحلم. ها هو يفقد الذهب الذي لا يعوّض. سألتُه عن كيفية استشهاد بلال... لا أحد يعرف. فقط يعرفون أنه خرج مع زوج أخته الذي كان يقود السيّارة. حتى اللحظة لم يُعثر على جثة زوج أخته. تعرّف شابٌّ من منطقتهم في الشيخ رضوان نزح إلى منطقة الدرج على جثة بلال. تعرّف عليه، فحمله ودفنه. واصل البكاء: تصوّر، لا جنازة لبلال ولا أحد يمشي وراءه... طبعاً، يمكن تصوّر كلّ هذا الألم، ويمكن تصوّر ما هو أبعد منه. سألتُه عن كرم ابن بلال. قال إن الأطفال لا يصدّقون أن أباهم قد مات، يقولون إنه مختبئ في مكان، وسيخرج بعد الحرب. أخبره الطفل الأصغر من كرم اليوم إنه رأى والده في المنام، وقال له: لا تصدّق، أنا لم أمت سأرجع... وبكينا. لا يمكن لشيء أن يطفئ هذه النار، ولا يمكن لأي كلمة أن تصف كل هذا الألم. جاء أخو بلال الآخر، وأيضاً الألم نفسه، والبكاء نفسه، والاستذكار نفسه. محمد مصوّر صحافي شهير يعمل لدى وكالة رويترز، ويدير عملها التصويري في مناطق مختلفة في العالم. ومن بين إخوته الذين يعملون تقريباً جميعهم في الصحافة، قرّر بلال ألا يعمل لدى أحد، وأسّس بيت الصحافة، ليكون مظلّة للصحافيين في غزّة، ويقدم لهم العون في كلّ المجالات العملية. قرابة ساعة، ونحن نتحدّث وقلوبنا قبل عيوننا تبكي.

نحن جميعاً بحاجةٍ لتأهيل، من أجل أن نفكّر في المستقبل، لأنّ ثمّة مستقبل لا يمكن لنا أن نتنازل عنه

لا أعرف أين أذهب أو ماذا أفعل. يمسكُ الألم بي، ويشلّ كلّ تفكيري وحركتي. لم أقوَ على الحركة. وقفتُ أسند جذعي إلى جدار في الشارع، وأنا أفكّر في لا شيء، وأرى لا شيء. أفكّر في أنني أفكّر أنّني لا أفكّر، فقط سارح في شيءٍ لا أراه. أرى الشارع أشكالا هلامية، وأسمع أصوات الناس، من دون أن أفهم شيئاً كأنّهم يتحدّثون لغة صامتة أو لغة خاصة، مثل "الجبشي". لا أعرف ماذا أفعل. حقيبة اللابتوب تثقل كتفي، وأنا أفكر أن أذهب في هذا الاتجاه أو في ذاك. قرّرتُ أن أواصل السير في شارع جلال باتجاه شارع المدينة الأساسي بجوار قلعة برقوق، وهي أشهر مكان في المدينة، ومعلم تاريخي هام. وحين يقال عن شخص إنه "قلعاوي"، أي أنه من سكان مكان القلعة، وهذا يعني أنه ابن المدينة الأصلية. ولهذه القلعة أكثر من قصة مثيرة ومهمة، كان وجودها يعكس بداية ظهور البلدة الساحلية الجنوبية في الطريق الواصل إلى سيناء، ومن ثمّ إلى بقية مصر.

وقفتُ أكثر من مرّة مع بعض الناس الذين أعرفهم، وأغلبُهم نازحون من مناطق مختلفة في قطاع غزة. نتحدّث ونتبادل الاخبار عن الوضع وعن العائلة وعن الأصدقاء الذين رحلوا، ثم نواصل الطريق. وكنتُ أسير لا أعرف إلى أين، ولا أنوي الوصول إلى أيّ مكان. كنتُ فقط أسير لأنني أريد أن أسير. عند القلعة، قرّرت أن أذهب في الطريق المفضي إلى المخيم. من هناك، يمكن أن أتصل بمأمون، حتى أتأكد من العنوان. سرتُ في طرقات المدينة حتى وصلت إلى مبني الهلال الأحمر. يذكّرني المشهد بما كان عليه مستشفى الشفاء، قبل أن يقتحمه الجيش ويعيثوا فيه فساداً. قابلتُ الكاتب هاني السالمي، ثم انضم إلينا الشاعر يوسف القدرة. هاني كاتب مبدع ومجتهد وعصامي في الحياة. يكتب الرواية عن الحياة التي يعرفها، ويعكس تلك الأفكار التي تجول في خاطر المواطن البسيط. زرتُه قبل الحرب بشهر، ربما عند بسطة القهوة التي وضعها على الشارع قرب مستشفى الهلال حتى يوفّر لقمة عيشه. تشرب القهوة وتقرأ كتاباً، كانت هذه فكرة هاني. وليوسف القدرة أيضا بسطة قهوة مجاورة على الطرف الآخر من شارع الهلال. شربت القهوة، في تلك الزيارة، عند الاثنين. يوسف شاعر شاب (على الأقلّ نظلّ نرى مجايلينا شباباً لأننا نريد أن نقتنع أننا ما زلنا شباباً). عرفنا بعضنا منذ أكثر من عشرين عاماً، وكان يكتب القصيدة المشغولة بذاتها، وهاجس شاعرها القلق. الشرط الإنساني يضم في داخله أيضاً أسئلتنا الخاصة. وقفنا نصف ساعة، ونحن نسأل ونتحدّث ونتذكّر، حين وصل مأمون وأخوه مطيع. مشينا معاً صوب بيتهم في المخيّم عند "الظهرة". سردتُ عليهما تفاصيل رحلة الخروج بتفاصيل كثيرة. جلسنا في الطابق الثاني للبيت، وهي شقّة أحمد، شقيق مأمون الذي لم يتزوج بعد. تناولنا طعامنا، وكانت تلك أوّل مرّة أتناول فيها البندورة والخيار بهذه الحرية منذ الحرب. أكلت ثلاث حبّات بندورة وربما خمس حبّات خيار. كنتُ قد نسيتُ الطعم، وأنا أستمتع بتناول مثل هذه الوجبة الطبيعية. تحدّثنا حتى ساعة متأخّرة. ثم واصلنا حديثنا ونحن نقلّب صفحات الأخبار، بعد أن "شبكنا" جوّالاتنا على الإنترنت، وكانت تلك المرّة الأولى منذ خرجت من بيت الصحافة قبل قرابة أسبوعين التي أحظي فيها بهذا القدر من الوقت على الإنترنت.

علينا أن نفكّر في كيف سينجو شعبنا من هذه الحرب المدمّرة، وكيف سنستطيع أن نفكّر في كلّ الذي ذهب من أجل أن نقفز فوق الجسر الحقيقي للألم

في الصباح، جاءت والدة مأمون (أم أيمن)، السبعينية التي تعطّر وجهك بحديثها العذب المليء بالأمل والمستقبل، وهي التي خبرت حروباً كثيرة، تسأل بقلق عن العائلة، وعن الأهل في الشمال. من يخبر الحرب يعرف آلامها، ومن يعش لينجو يعرف قيمة الحياة ووقْع الفقد. جرى تهجير عائلة مأمون من قرية الجية، وهي على يمين الطريق قبل أن تصل من غزّة إلى المجدل مباشرة، إذ تجاورها بعض أراضي المجدل. أخذنا الحديث من مكان إلى آخر، ومن موضوع إلى مواضيع.

اتّصلت بالزميل وزير الأشغال العامة والإسكان الدكتور محمد زيارة، الموجود في خانيونس، واقترحت عليه أن نحضر جلسة مجلس الوزراء الطارئة عند مأمون لتوّفر الإنترنت هنا. يحضر الدكتور زيارة جلسات المجلس عبر تطبيق زووم من مجمّع تجاري في وسط المدينة. جاء وحضرنا الجلسة التي كانت مخصّصة لمناقشة فكرة إعلان حالة الطوارئ من عدمه.

كل حالتنا طارئة، ولذا لا حاجة لقول ذلك. الأساس أن نفكّر في كيف سينجو شعبنا من هذه الحرب المدمّرة، وكيف سنستطيع أن نفكّر في كلّ الذي ذهب من أجل أن نقفز فوق الجسر الحقيقي للألم. نحتاج مزيدًا من الوقت حتى نشفى منه، ونحتاج وقتاً آخر حتى نتعافى من الحرب وآثارها. قلت لمأمون: تبدأ الحرب الحقيقية بعد أن تنتهي الحرب، حين نفكّر في العام الدراسي، كيف سيواصله التلاميذ والطلاب، فالمدارس بحاجة لتأهيل، والمستشفيات بحاجة لتأهيل. نحن جميعاً بحاجةٍ لتأهيل، من أجل أن نفكّر في المستقبل، لأنّ ثمّة مستقبل لا يمكن لنا أن نتنازل عنه.

قضايا وناس
التحديثات الحية

المساهمون