لعنة

لعنة

28 اغسطس 2014
اكتشفَت أن الابتعاد أمر أكثر تعقيداً (Getty)
+ الخط -

توضّب أمتعتها. تمضي الليل كله -وقد أمضت ليالي سابقة- وهي تفعل. وفي الصباح الباكر، تنتظر مغادرتهم قبل أن تدلّ صاحب شاحنة التحميل الصغيرة على البيت.. الذي لن يعود "البيت" من الآن فصاعداً. سيكون لها مكانها الخاص.

أخيراً إلى الحريّة! لكن، هرباً. حتى ولو لم تعترف بذلك. هي لم تشأ أن تقوم بتلك الخطوة أمام أنظارهم. لم تشأ أن تجرح -خصوصاً- شعور والدها الذي سبق وقال لها مرّة: "ابنتي لا تخرج من بيت العائلة إلا لتدخل بيتها الزوجي".

قرارها اتّخذته. ولم يكن أحدٌ ليقف في دربها. لكنها فضّلت الهروب، لتلافي إهانة قد يشعر بها الوالد وغصّة أكيدة كانت ستخنقه، لو رآها تنقل حاجياتها وأثاثها.

وفي المساء، تعود. وتخبرهم عن الخطوة التي قامت بها. من ثمّ، تسلّمهم مفاتيح البيت.. بيتهم حيث خلّفت بعض ذاتها. فيشعرون بما يشبه الخيبة، كأنهم غُدروا. هكذا تحسّ.

أخيراً إلى الحريّة! لكن مع عقدة ذنب عارمة. هي تعلم أن خطوتها هذه تعني أنها قرّرت الابتعاد. القرار ليس سهلاً، غير أنها لم تعد ترغب في الذوبان أكثر في ذلك الكيان الذي يُسمّى العائلة. لكنها تقدّس العائلة! إنه "تناقض وجداني". هكذا يصنّف علم النفس حالتها هذه.

حدث ذلك قبل أكثر من ثلاث سنوات. هي ابتعدت أو ظنّت أنها فعلت، في وقت ما زال عبء العائلة يرهقها.

صحيح أنها تملك اليوم مساحتها الخاصة، ومن يقصدها يطرق بابها قبل أن تدعوه إلى الدخول. لكنها اكتشفَت أن الابتعاد أمر أكثر تعقيداً وأننا غالباً ما نفشل في رسم حدود بيننا وبين ذلك الكيان.. العائلة.

ثمّة ما يمنعنا من تحقيق ذلك. قد تكون لعنة، تغذّيها تقاليد وقيم وعقد توارثناها وعواطف ومشاعر تملّكت بنا. وقد يكون الامتنان وعرفان الجميل من تلك المشاعر، حتى لا نُتّهم بالجحود. وكلّ ذلك في لاوعينا.

في الأمس، أخبرني صديق أنه يخوض معارك حتى يتمكّن من "الابتعاد". تمنّى مثل حال تلك الصديقة، حتى ولو لم تنجح كلياً. وراح يسبّ المجتمع والبلد والقيم التي تكبّلنا.. فنعجز عن الحياة.

قبل أكثر من ثلاث سنوات، سلّمت المرأة الشابة مفاتيح "البيت" إلى أهلها.. أصحابه. وظنّت أنه سيكون لها بيتها ومفتاحه الخاص. فكان لها مفتاح لمكان خاص بها وضعت اسمها على مدخله ورتّبته بحسب ذوقها. لكنها ما زالت عاجزة عن كبح تطفّل أصحاب ذلك "البيت" على حياتها.. ذلك البيت حيث خلّفت الكثير من ذاتها.

هناك، خلّفت الكثير من دون أن تدري. فلم تكفّ عن الذوبان في ذلك الكيان الذي يُسمّى العائلة. وتحنق على نفسها.. في تناقض وجداني.

المساهمون