وطني سئمتكَ

وطني سئمتكَ

27 اغسطس 2015
وطني... (جوزيف عيد/ فرانس برس)
+ الخط -

"زهقانة البلد... فينا نزهق (نسأم) البلد". وتستطرد الصديقة في تعليق، "زهقانة البلد وأخباره وزهقانة حالي بالبلد". ويدور جدال على صفحتها على الشبكة العنكبوتيّة، فيردّ أحدهم أن "الوطن ليس فندقاً نغادره عندما تسوء الخدمة!".

ويعود إليّ ذلك القميص القطنيّ الذي كثيراً ما كنتُ أرتديه قبل زمن طويل، عندما كان "الوطن" محوري. ويعود إليّ اعتراض كثيرين من هؤلاء الذي "يثورون" اليوم، عليه. "فلتحبّه أو ارحل عنه". هذا ما كُتِب على ذلك القميص الذي ما زلت أحتفظ به في إحدى الحقائب، مع قمصان قطنيّة أخرى طُبِعت عليها شعارات مختلفة خاصة بحملات مدنيّة عديدة كنتُ قد انخرطتُ فيها في ذلك الزمن، إيماناً مني بـ "تغيير ما" أحقّقه بـ "نضال ما".

كنا - رفاقي وأنا - حالمين، وإن كنا نرفع شعار "كن واقعياً واطلب المستحيل". تلك الواقعيّة، ما كانت سوى مراوغة بريئة، حاولنا من خلالها إقناع أنفسنا قبل سوانا بأننا لسنا واهمين. كنا نحلم بوطن يشبه تلك المثاليّة التي كانت تحرّكنا وقد تلبّست بنا. كان ذلك قبل زمن.. طويل. أما اليوم، فأراقب الحراك في الشارع. أرى شباباً حالمين، يشبهون ماضياً كان يختصرني ورفاقاً لي، فرّقنا "وطننا" ذاته الذي جمعنا في يوم.

أراقب هؤلاء "الثائرين" يستغربون حدّة رجال الأمن في مواجهتهم. الحدّة مستغرَبة دائماً، ومستهجَنة دائماً. لكن.. ربما، فات هؤلاء تطايرنا بمياه خراطيم الدفاع المدنيّ، في وسط بيروت وفي نواحٍ أخرى من العاصمة. ربما، فات هؤلاء اختناقنا بقنابل مسيّلة للدموع، وكيف كان الناس يرمون لنا أكواز البصل للتخفيف من آثار ذلك الغاز. ربما، فات هؤلاء توقيف أعداد منا، واعتصامنا أمام مراكز احتجازهم لأيام وليالٍ مطالبين بتحريرهم. ربما، فات هؤلاء تشرّد أعداد منا، وقد عجزنا عن العودة إلى منازلنا على خلفيّة ملاحقات طالت لأسابيع أو أكثر، أحياناً. ربما، فات هؤلاء شعورنا بضيق كان يقطع أنفاسنا، ونحن نشاهد كثيرين يتفرّجون علينا. كان ذلك أكثر إيلاماً من كلّ الكدمات التي خلّفتها الهراوات على أجسادنا. ربما، فات هؤلاء أن مشهد اليوم ليس مستجداً. نحن أيضاً كنا ننشد "ما عاد فييّ حبّ.. قصّة وعي سياسي، مش قادر إني حبّ.. حبّي هوّي الجماهير وغرامي القضيّة...". ربما، فات هؤلاء مشهد الأمس البعيد، إذ كانت وسائل الإعلام حذرة في تورّطها معنا.

---

وطني، ما زالت القشعريرة نفسها تنتابني كلما أنشدتْ فيروز "بمجدك احتميت بترابك الجنة.. ع إسمك غنيت ع إسمك رح غني.. وإحمُل بإيدي كاسك المليان.. إرفعو لفوق لفوق لمطرح اللي بيوقف الزمان.. وإسكَر بإسمك مجد يا لبنان". وطني، ما زالت مسرحيات الأخوَين رحباني تبكيني كما كانت تفعل. هي ما زالت تصوّر ذلك الوطن الوهم.. وطني.
وطني، فلتعذرني. اليوم، سئمت ذلك الوهم.. سئمتكَ.

اقرأ أيضاً: طفولة في حقيبة

المساهمون