أمينة إرازم... "عرابة" الحلويات التقليدية في وهران

أمينة إرازم... "عرابة" الحلويات التقليدية في وهران

11 اغسطس 2018
من المحاماة إلى بيع الحلويات (العربي الجديد)
+ الخط -
تشرف أمينة إرازم على محلّ لبيع الحلويات التقليدية في قلب مدينة وهران، هي الجامعية المؤهلة لممارسة المحاماة. ولأنّها ترى في شغلها عزاءها في الحياة، فهي تتعامل مع زبونها كضيف.

دفعت التحوّلات التي شهدتها الجزائر بعد نصف قرن من الاستقلال الوطني، في الاقتصاد والتعليم خصوصاً، في اتجاه تغيير مفاهيم وسلوكيات عدّة لمصلحة ما هو سائد في العالم، منها خروج المرأة للدراسة أو العمل أو تسيير الشأن العام، إذ إنّ ذلك لم يعد مستغرباً ولا مستهجناً ولا مثيراً للانتباه حتى في التجمعات الريفية. وثمّة دراسات تشير إلى أنّ البلاد مقبلة على أن تتأنّث في عدد كبير من القطاعات والإدارات في المدى القريب، نظراً إلى اجتهاد المرأة وتشبثها بالدراسة وتفانيها في العمل.




في مدينة وهران المعروفة بعاصمة الغرب الجزائري وبـ"باريس الصغيرة"، نظراً إلى تشابه المدينتين في المعمار الموروث عن العهد الفرنسي وفي ليلهما الزاخر بالسهر والاحتفاء بالحياة، عبّرنا في أكثر من مرّة عن رغبتنا في تناول أطعمة وحلويات تقليدية. فنصحَنا عدد من أبناء المدينة بمحل صغير في شارع مستغانم، تديره أمينة إرازم، سيّدة تحبّ عملها وتتعامل مع زبونها كضيف. يُذكر أنّ الجزائريين وبحسب المتعارف عليه، لا يُجمعون على مطعم إلا إذا كان جديراً بسمعته، فهم يتنقلون مسافات طويلة من أجل الحصول على لقمة لذيذة ونظيفة. بالتالي، ركبنا الترامواي الذي صار يشقّ شوارع المدينة الرئيسية من دون حاجة إلى ذلك، فعطّل نبضها السياحي والتجاري. شارع مستغانم حيث محل أمينة إرازم، واحد من تلك الشوارع. إلى جانب محل الحلويات، عشرات المحال التي كانت تدرّ أرباحاً طائلة في السابق على أصحابها، لتصير اليوم أصلح لتخزين السلع منها لبيعها.

وصلنا إلى المحلّ، فتركت أمينة ما كان بين يديها وتوجّهت إلينا بابتسامة تحمل فرحاً لكل المدينة، ثمّ راحت ترشدنا إلى الحلويات التي خرجت من الفرن للتو. وتشير إلى منتجاتها ذات مذاقها المالح وذات المذاق الحلو، وإلى تلك الخفيفة على المعدة، بما يمنح الواحد انطباعاً بأنّه في بيته، وفي حضرة أمّه أو أخته. وتكرّر ذلك مع زبائن وصلوا في وقت لاحق. وتخبر "العربي الجديد" كيف تنسى أنّه يتوجّب عليها قبض النقود من زبونها الذي تسمّيه ضيفاً، إلا بعد أن يمد يده ليناولها المال. تقول: "فأنا أكون مشغولة بإسعاده بالمنتجات التي صنعتها بيدَيّ"، سائلة "متى نتنبّه إلى أنّ التجارة فقدت روحها في الجزائر؟ هل عندما يصير الزبون بالنسبة إلى التاجر مجرّد مستهلك لا يستحقّ الرحمة؟". في تلك الأثناء، يقترب أحد الزبائن منها ويناولها ورقة ألفَي دينار جزائري (17 دولاراً). تردّ أنّها لا تملك الفكّة وأنّه في إمكانه تسديد الفاتورة في فرصة أخرى. هل الزبائن الذين تتعاملين معهم بهذه الطريقة يعودون بالنقود؟ تجيب: "هم يعودون غالباً. وما يهمّني هو أن يشكروني حين يتذوّقون حلوياتي في بيوتهم".



وأمينة من منطقة أمازيغية تبعد من وهران 500 كيلومتر، تخبر أنّها دخلت إلى وهران للمرّة الأولى في إطار مخيّم صيفي مع صديقات لها، "فأحببتها وقرّرت العيش فيها. فأنا أحبّ منذ صغري، الفرح والغناء والرقص والمدن التي تساعد على ذلك. وعلى الرغم من أنّ والدي كان مدير مدرسة ابتدائية، فإنّ التفكير في الزواج وفي أن تكون لي شبكة علاقات واسعة من الصداقات، كان أكبر من تفكيري في الدراسة".

وتشير أمينة إلى أنّها تعرّفت إلى زوجها في حفل زفاف إحدى صديقاتها، فتزوّجا في عام 1995 في عزّ أيام العنف والإرهاب، التي كانت خلالها تُزهق النفوس وتُقطع الرؤوس. تضيف: "كنت أبلغ من العمر حينها 19 عاماً، وأنجبت ابنتي الأولى بعد عام. ورحت بالموازاة أتابع تعليمي عن بعد للحصول على شهادة البكالوريا/ الأهلية العامة، قبل أن ألتحق بالجامعة، بعد عدد من المحاولات الفاشلة في مدينة غليزان التي تبعد من وهران 100 كيلومتر. وبعدما حصلت على شهادة الليسانس (إجازة)، تسجّلت في جامعة مدينة سيدي بلعباس للحصول على شهادة المحاماة".

تتابع أمينة أنّ "الظروف المادية لم تسمح لي بأن أفتح مكتب محاماة خاصاً بي، ثمّ إنّني خفت من مهنة المحاماة نظراً إلى سمعة الجزائر. لكنّني رأيت في الشهادة الجامعية عزاءً لي، إذ إنّني كافحت من أجل الحصول عليها". من هنا، رأت أنّ الحلّ يكمن في "الاستعانة ببركة الأجداد، وقرّرت إحياء طعامهم وحلوياتهم التي توشك على الانقراض أمام الأصناف الجديدة".




فتّشت أمينة عن محلّ للإيجار في مكان ما، هي المقتنعة بأنّ رواج شغلها لا يتعلّق بسمعة المكان بل بجودة ما تصنع، "فأدهشني أنّ زبائني ليسوا من أبناء الحومة فقط، بل من حومات بعيدة في المدينة ومن مدن مجاورة كذلك". وإذ تستشهد بالمثل الشعبي "الشغل المليح عمرو ما يطيح"، تقول إنّ احترام المرأة لا يرتبط بلباسها أو بمكوثها في البيت بل بالقيم التّي تؤمن بها وتدافع عنها، ومنها الطموح والصبر والتفاني في العمل... "وأنا نفسي صنيعة هذه القيم الثلاث".

المساهمون