لا قضية بلا أرض

لا قضية بلا أرض

27 مارس 2016
(إحياء ذكرى "يوم الأرض" عام 1978)
+ الخط -

لم تكن هناك تسمية أكثر تعبيراً عما جرى قبل أربعين عاماً في الشطر الفلسطيني الذي نسميه مرة "الداخل"، ومرة " ألـ 48". إنه، حقاً، يوم الأرض. لأنَّ لا بلاد بلا أرض. لا قضية فلسطينية بلا أرض. يحلو للأدبيات الصهيونية أن تتحدث عن شعب بلا أرض. وأرض بلا شعب. ليس هناك شعب بلا أرض. فأين عساه أقام وعاش وسجَّل شهادة ولادته: في الفضاء؟

لم نصل بعد إلى عهد الشعوب الفضائية. ربما سيكون الأمر كذلك في مسيرة الإنسان، هذا الكائن الذي لا يقبل الهزيمة. لكننا نتحدث عن الآن الذي يمتد، في الحالة الفلسطينية، ما يقرب من قرن. لا أتحدث عن الأراضي، المباشرة، التي كان الاحتلال الإسرائيلي يخطط لسرقتها من أهلها الباقين فيها وإلحاقها بقرى "يهودية" عام 1976.

هذا مجرد صاعق فجَّر الهبَّة الشعبية التي تجاوزت الغضب إلى التنظيم والخطة والتراص. أتحدث عن الأرض، قبل ذلك اليوم التاريخي وبعده. هي جوهر القضية الفلسطينية. الشعب لم يذب حتى في المهاجر والمنافي القاسية.

ها هو موجود ويؤكد اسمه وهويته في كل مناسبة رغم الظروف التي تدفعه إلى التخلي و"النأي بالنفس" عما يبدو مستحيلاً، في ظل ترسخ المشروع الصهيوني وتفكك "الطوق" العربي.

الشعب موجود حتى ولو في مخيمات صارت مدناً، ومهاجر صارت "أوطاناً". لكن أرضه سرقت، عيني عينك، وتسجَّلت، في المحافل الدولية، باسم آخر، ولفكرة ربطت بين الدين والقومية وجعلت، للمرة الأولى في التاريخ على الأغلب، الدين معياراً للعرق.

أتذكر ذلك اليوم الربيعي الذي حملت فيه الأخبار ثورة الداخل. كانت ثورة الباقين على صدور المحتلين (على حد تعبير توفيق زياد) تتراءى في الأدب. الشعر تحديداً. تلك هي المقاومة، شبه الوحيدة، التي كانت تصلنا من "الداخل".

كأنَّ الشعر، والحال، نيابة عن الواقع. بل بدا كأنَّه الواقع ولا شيء غيره. كان الواقع العربي (بل وواقع الشتات الفلسطيني) قد نسى الذين بقوا في بلادهم، بوعي، بمعجزة، وجعلوا المشروع الصهيوني (على المدى البعيد) مطعوناً بخاصرته، حتى جاء "شعر المقاومة" ليقول لنا إن من تبقى من الفلسطينيين هناك لا يعيشون كأنهم أموات، ولم يستسلموا لغلبة القوة رغم قلة عددهم، ونسيان وجودهم.

هكذا جاءت ثورة أهل الداخل لتكشف عن شعب وقوى وعزم وأفكار لا يقل قوة وجمالية مما هو عليه في صورته الشعرية. أتذكر كم كان ذلك اليوم الذي تخضب بالدم لقية وطنية.

كنا نعرف أن القوى الأساسية التي تعمل في وسط فلسطينيي الداخل ترى في القومية مرضاً، وربما شيئاً قريباً من الفاشية رغم أن القومية في الفضاء العربي كانت حركة تحرر وطني مناهضة للاستعمار والصهيونية وليست ضد "الآخر" العرقي والديني من حيث المبدأ. فهي حركة ولدت في قلب معركة العربي في سبيل تقرير مصيره سواء في زمن السلطنة العثمانية أم في زمن الاحتلالات الغربية.. ثم مجيء المشروع الصهيوني في ركابها.

هناك تحوّلٌ طرأ على الوعي والعمل الفلسطينيين في الداخل صنعه يوم الأرض. هناك قوى وأفكار ولدت. وهناك قوى تراجعت وتبين حدود نضالها. لكن الأهم أن ذلك اليوم التاريخي كشف عن شعب نُسي، أو تم نسيانه، في الوقت الذي كان فيه الخطاب السياسي العربي يحلف بذكر فلسطين. كأنَّ فلسطين في مكان آخر. كأنها ليست هناك.

وكأنَّ هؤلاء الذين صعدوا إلى مستوى الأرض ولبوا نداءاتها المبحوحة ليسوا هم الشعب الذي سوَّد الخطاب العربي بحراً من حبره. إلى هذا الحد كان يوم الأرض مهماً في الوعي الفلسطيني قبل غيره.


اقرأ أيضاً: المقاومة: الحق والأداة

المساهمون