قطاع غزة المنسيّ حتى من الفلسطينيين

قطاع غزة المنسيّ حتى من الفلسطينيين

08 اغسطس 2016
تصوير: أنيس غنيمة
+ الخط -

يقطن غزة حالياً عدد يقترب من مليوني نسمة على مساحة 360 كيلومتراً مربعاً، نسبة كبيرة منهم لجأوا إلى القطاع من فلسطين الانتدابية بعد كارثة سقوط فلسطين بأيدي العصابات الصهيونية عام 1948.

ومع طول العهد على إقامة هؤلاء في مخيمات قطاع غزة أصبحوا في عداد الغزيين، لكن الأونروا (وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين) ما زالت تشرف على مخيمات في القطاع، منها جباليا وبيت لاهيا والمغازي والنصيرات والبريج والشاطىء ومخيمات دير البلح وخان يونس ورفح.

تاريخ غزة شبيه بتاريخ بقية فلسطين ودول مجاورة، فقد أقام فيها الصليبيون ثم العثمانيون ثم الانتداب البريطاني. وجرى احتلالها من طرف الكيان الصهيوني مرتين، مرة في اكتوبر/ تشرين الأول 1956 ولفترة خمسة شهور، وذلك في إطار العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر، وتم الانسحاب الاسرائيلي من القطاع في مارس/آذار 1957 في إطار الانسحاب من سيناء استجابة لإنذار الرئيس الأميركي الأسبق ديويت ايزنهاور.

كان القطاع يخضع لحكم عسكري مصري، وقد عاد الوجود المصري للقطاع بعد الانسحاب الإسرائيلي. وفي حرب حزيران/يونيو 1967 سقط القطاع في أيدي الاحتلال الإسرائيلي، كما هو الحال مع سيناء والضفة الغربية وهضبة الجولان. ومع عودة سيناء ضمن اتفاقية كامب ديفيد لمصر عام 1979، فإن القطاع لم يعد هذه المرة إلى مصر، لسبب رئيس وهو أن القطاع وطّد هويته كجزء من الأراضي الفلسطينية، ولأن الجانب الفلسطيني رفض التسوية المصرية الإسرائيلية المنفردة، وإن لم يكن آنذاك بعيداً عن أجوائها وترتيباتها.

غزة وأريحا أولاً
احتاج الأمر إلى مضي سنوات أخرى، ففي سبتمبر/أيلول من العام 1993 جرى توقيع اتفاقية أوسلو، وترافقت العملية مع ارتفاع شعار: غزة وأريحا أولاً. وبالفعل دخل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في موكب مهيب إلى غزة في يوليو/ تموز 1994، ونشأت مع الأيام الأولى لوصوله من تونس السلطة الوطنية الفلسطينية.

ولم يلبث الاحتلال أن خفف من وجوده في القطاع إلى حد كبير وأبقى على خمس مستوطنات، فيما اتخذ عرفات من رام الله مقراً له وللسلطة الوطنية الناشئة بموجب الاتفاقية. وبينما كان الاحتلال يتجه لإنهاء وجوده المباشر في غزة فقد ضيّق الخناق على مدن الضفة وعلى أجهزة السلطة الفلسطينية وعلى مقر عرفات في رام الله، مما أدى إلى وفاته مسموماً في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004 بعد فشل عملية علاجه في فرنسا.

بعد أشهر قررت حكومة الاحتلال برئاسة أرئيل شارون في العام 2005 إنهاء وجودها الاستيطاني والعسكري في القطاع، مع إبقاء سيطرتها على البحر والأجواء. وشدّدت من حصارها على مدن الضفة الغربية.

بعد عام جرت انتخابات للمجلس التشريعي في الضفة الغربية وقطاع غزة تصدّرت فيها حماس وتشكلت بموجبها حكومة وحدة وطنية برئاسة إسماعيل هنية.

في حزيران/يونيو 2007 قامت حركة حماس بحسم/ انقلاب عسكري على السلطة، وسيطرت على القطاع منذ ذلك التاريخ، وتعرض القطاع لحربين مدمرتين في العامين 2008 و2014.

المحطات الواردة هنا لم تشمل تاريخاً من المقاومة أبداها الغزيون ابتداء منذ العام 1956، ثم ما بعد هزيمة حزيران 1967. مقاومة باسلة وعنيدة جعلت رابين يتمنى أن يستيقظ يوماً ويرى غزة وقد ابتلعها البحر. لم يخطر ببال صاحب هذه الأمنية الصفرية النهائية أن نهايته هو ستكون على يد شاب صهيوني شديد التطرف، وليست على يد المقاومة الغزية.

قطيعة تامة
توصف المدينة بأنها غزة هاشم لأنها تضم قبر جد النبي محمد: هاشم بن عبد مناف. وفي المأثور أنها مدينة الإمام الشافعي ومسقط رأسه وهو أحد أئمة المذاهب الأربعة السنة في القرن الثامن الميلادي. يعود أول تاريخ معروف لها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد.

وبعيداً عن التاريخ السحيق وعودة إلى أيام الناس هذه، فإن قطاع غزة يوصف بأنه المنطقة الأعلى كثافة في السكان في العالم. إذ تبلغ الكثافة السكانية 26400 مواطن لكل كيلومتر مربع. بيد أنها ترتفع وتتضاعف لتبلغ في مخيمات اللاجئين 55500 مواطناً لكل كيلومتر مربع.

إنها كثافة هائلة (سردينية..) تفسر جزئياً حال التوتر الذي يسم الغزيين. في ظروف طبيعية كان يجب إعادة توزيع السكان، لكن من أين لغزة وقطاعها ظروفاً طبيعية؟ فهي منفصلة جغرافياً عن الضفة الغربية وفقاً لقرار التقسيم لعام 1947 الذي طبّقه الإسرائيليون على طريقتهم: ما هو لنا فهو لنا، وما هو لغيرنا فهو لنا أيضاً.

هذا المقال يتناول بعض انعكاسات الانفصال الجغرافي على موقع قطاع غزة في الواقع الفلسطيني. فرغم أن القطاع كان بأيدي الإدارة المصرية ولم يكن محتلاً بين عامي 1948 و1967 باستثناء بضعة شهور، إلا أن أبناء الضفة الغربية لم يتح لهم زيارة غزة. وكذلك الغزيون لم يتسن لهم زيارة الضفة الغربية التي كانت تحت الإدارة الأردنية وجزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية.

بعد احتلال العام 1967 لم يتغير الوضع رغم أن الاحتلال شمل الضفة الغربية والقطاع. لقد أتيح لعرب فلسطين 1948 زيارة الضفة الغربية بحكم هويتهم (بطاقتهم) الإسرائيلية التي تتيح لهم التحرك في "المناطق" (تسمية الاحتلال للضفة الغربية).

خنق غزة مثّل سياسة إسرائيلية دائمة. وفي الوقت ذاته فإن الصهاينة كانوا ولعلهم ما زالوا، يُمنّون النفس بأن تقوم دولة فلسطينية في غزة (بما يمكّنهم من ابتلاع القدس والضفة الغربية) مع امتداد لها في سيناء وهو ما يرفضه الفلسطينيون والمصريون.

في الوعي الصهيوني فإن غزة ليست جزءاً من أرض إسرائيل، كحال "يهودا والسامرة" (التسمية الصهيونية للضفة الغربية). التخلي عن غزة في عهد شارون يجد جذره في هذه المسألة، التي كان يدركها ياسر عرفات بغريزته السياسية اليقظة، والذي رفض أن تكون غزة مقراً رئيسياً له، واختار رام الله الأقرب إلى القدس.

غير أن الفصل الجغرافي ووجود الاحتلال إضافة إلى الانقسام بين السلطة في رام الله وسلطة حماس، كرّس الانفصال وعمّقه، وأدى إلى توطيد عزلة قطاع غزة.

النسبة الأكبر من الفلسطينيين لم تطأ أقدام أصحابها قطاع غزة (منهم كاتب هذه الكلمات!). وفي الوعي العامي لأبناء الضفة وربما أبناء فلسطين الانتدابية الباقين على أرض الأجداد، بأن غزة قد تمصّرت، وأن علاقات الغزيين بالمصريين أقوى من علاقاتهم بأبناء وطنهم! وذلك في تجاهل تام للظروف الموضوعية التي أدت إلى ذلك. علماً أن العلاقة بالأشقاء المصريين تظل أفضل ألف مرة من علاقة البعض الوثيقة بالإسرائيليين.

أجل.. غزة جزء أصيل من فلسطين، لكنه جزء ويا للمفارقة يبدو في المخيال العامي بل العام، وكأنه أقل فلسطينية من بقية أجزاء فلسطين! فأين هم الفلسطينيون الذين يفكرون بزيارة غزة.. مجرد زيارة، رغم أنه لا جندي إسرائيلياً واحداً يقف على الحدود؟ سلطة حماس من جهتها لا تخاطب الفلسطينيين في الخارج ولا تدعوهم لزيارة القطاع (ناهيك عن العرب)، وكأنها ركنت إلى عزلة القطاع وهامشيته.

قادة فلسطينيون رفضوا الدخول إلى الضفة الغربية بعد أوسلو لتفادي أي إجراء إسرائيلي، وبعضهم رفض الاحتلال دخولهم، لكن هؤلاء وأؤلئك القادة والمسؤولين لا يفكرون كما هو بادٍ بالانتقال إلى أرض فلسطينية هي غزة، حتى ولا زيارتها، رغم أن الحَرَج الوطني عن الدخول قد زال منذ أكثر من عشر سنوات.

غزة تنوء تحت عُسف ثقيل، يشارك به عن غير وعي كثرة من الفلسطينيين في الشتات يضعون القطاع في موقع قصي وهامشي جداً وغير مرئي من خريطة الوطن، ولدرجة تحمل أقل القليل فقط من الناس على التفكير في زيارة غزة، والتواصل مع أهلها.


(كاتب فلسطيني/ عمّان)