سورية الأصل والمعنى

سورية الأصل والمعنى

17 فبراير 2015
لؤي كيالي، أمومة، 1973
+ الخط -
خرجت لوحة لؤي كيّالي من جهة الصالون المنعّم والنساء الأنيقات الجميلات المترفات، إلى جهة الشارع السوري بكلّ ما فيه؛ هكذا بدا الباعة المتجوّلون والأطفال المقهورون، والناس المشرّدون، الموضوع الأكثر حضورًا وتعبيرًا في لوحاته. بطريقة ما أرّخ كيّالي مشاهد لا تخصّ مكانًا بعينه في سورية، بل مشاهدَ سورية بامتياز، تظهر كيف تتعطّل الحياة وتنعطب. ترك لؤي لأبناء جلدته، إشارةً ذات مغزى في تلك اللوحات، إذ اختار رسم السوريين لا على "قماشة" مشدودة مؤسّسة كما فعل للوحات الصالون، بل على ألواح من خشبٍ مضغوط من نثريّات الخشب، يسمّى : النشارة. هكذا ينمو المعنى ليغدو مجازًا عفويًا من دون قصد.
ومن دون قصد تتآلف "أمور" تبدو في ظاهرها مختلفة، لكنها تتشابك كما تتشابك القطع الخشبية في "التعشيق"، تلك الطريقة السورية التي تربط القطع الخشبية بقوّة الاحتكاك بين خشبٍ ذكر وآخر أنثى، أو لعلّها تتشابك كما الصدف المنغرس على خشب الجوز "حفرًا وتنزيلًا". كذا أمرُ زكريا تامر مع سورية ومع وصفه لأهلها في قصصه القاسية ظاهرًا، لكنّها في داخلها، حاملة رقّة أدنى إلى ما تنضح به لوحات كيّالي آن تصوّر قسوة الحياة على السوريين البسطاء، فتشعّ بحزن وأسى لا نهائيين، وحاملة أيضَا ليونة في التعبير، هي أقرب إلى بلاغة الجمال في "الهبرية" الحلبية؛ ذاك المنديل الحريري الآسر، الضعيف الشفّاف، الذي يزيّن رؤوس النساء أينما جرى الفرات.
وللمرء أن يتأمّل اسم النهر، لينظر في أصله ومعناه، وأن يغبط نفسه عند الاقتباس من القرآن الكريم :"عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابه"، فسورية بلدٌ عريقٌ بتاريخه، ينفتح كـ "الطوفان" من لفظٍ واحد، ولا تكفي ألفاظ "لسان العرب" كلّها لتصفه ماضيًا؛ إذ إن مكانه في تاريخ الحضارات راسخٌ ومكين، أو لتصفه حاضرًا؛ حيث المأساة السورية المستمرّة منذ أربعة أعوام، التي لمّا تنتهي.
هكذا تحت سطح قسوّة الحياة التي رسمها الحلبي في لوحاته، وقيّدها الشامي في قصصه، يمتدّ بلدٌ برمّته، كما تمتدّ "الهبرية" فوق الفرات، فتفتن عمر أميرلاي ليصوّر القسوة نفسها في غير ما فيلمٍ عن الفرات وسدّه وعن أهله و"طوفانه".
تحت سطح القسوة، بلدٌ يمتدّ بناسه وأحوالهم "الجديدة"؛ هم قتلى وجرحى وغرقى، هم لاجئون وهاربون ومشرّدون. المنسيون في خضم الأخبار اللاهثة وراء "داعش" و"الإرهاب" وأشباههما الكثيرة المتكاثرة، والحاضرون رقمًا صالحًا للمساومة في "المساعدات" و"المبادرات" و"الصفقات"، أو الحاضرون صورةً فوتوغرافية في معرضٍ في متحفٍ مختصّ بأثر الكوارث والحروب على البشر، أو الخارجون من دون توقّف من تحت أنقاض بيوتهم. في ما مضى كنّا نرى بشرًا خارجين من تحت الأنقاض إثر زلزالٍ مدمّر لم يدم لأكثر من ثوان، لكنّ السوريين استثناء على ما يبدو في كلّ شيء؛ زلزالهم متفرّد ومستمّر. هم المرميون على قارعة الطرق، هم النازلون جثثًا أو أشلاءً إلى القبور، لكأنّ تلك الأخيرة اختصّت بهم "حفرًا وتنزيلًا". هم الذين يُصوّرون وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة في شريط يوتيوب، بُثّ على مواقع التواصل الاجتماعي، ورفضت أقنية التلفزة عرضه، لأسباب تتعلّق تارة بـ "المشاعر الإنسانية" و"انتهاك حرمة الموت"، وتتعلّق تارةً أخرى بأسباب توفّرها "الحسابات السياسية" التي تهدف منع التعاطف مع الضحية، والسماح بعكس ذلك : لوم الضحية.
أدار العالم وجهه لسورية، و"سلّم"، أو تواطؤ على، أن ما يجري فيها لن ينتهي عمّا قريب، فلا داعي للاستعجال في أي شيء. الوقت وقتُ الدخول في أزقّة الحسابات السياسية، لا وقت الوقوف ولو دقيقة صمت، من أجل هذا البلد وأهله، ناهيك عن التفكير في حلّ أو جزءٍ من جزءٍ من حلّ لوقف القتل.
فيلكن من وقتٍ، على الأقلّ، لقراءة جزء ممّا كتبه، جزءٌ من السوريين، عن جزءٍ من أحوالهم، فلا يمكن لصفحات قليلة أن تكون ممثلّة ولو لجزء من جزء من الثقافة السورية.
الكتابة السورية وعن سورية وأهلها ها هنا تتآلف، كما قطع الخشب المختلفة في الموزاييك، إذ إن لمنبعها ومصبّها عنوانًا وحيدًا : تاريخ من القمع والقهر والظلم والاستبداد، نقرأه ونستشفّه في الشّعر والرواية والقصّة والخاطرة والمقال.
ولئلا تبدو سورية قريبة من "حياة معطلة"، لو جاز التعبير، بسبب واقعها الحالي، كان لا بدّ من زيارة شيخ القصّة السورية، زكريا تامر، والحوار معه، ذلك لأن حضوره إبداعًا وشخصًا طاغٍ كما لا يخفى. زكريا تامر بذهنه المتّقد وأجوبته الدقيقة ضيف ملحق الثقافة. كتب زكريا تامر قصصًا عن الظلم، فبدتْ سورية جحيمًا أو تكاد، لكنّه الماهر الذي سرّب من خلال القصص نفسها، سورية القابعة في قلوب السوريين ووجدانهم، فشفّت من تحت غلالة أو "هبرية" جنةً أو تكاد.

المساهمون