الطاهر بنجلون وشراراته النارية

الطاهر بنجلون وشراراته النارية

28 ابريل 2015
+ الخط -
يدعونا الكاتب والروائي المغربي، الطاهر بنجلون، صاحب "ليلة القدر"، إلى التوقف نهائيًا عن كيل اللوم للمثقفين العرب، إبّان مواقفهم، في ما سمّي بـ "الربيع العربي".
 
ففي كتابه "الشرارة" الذي كان من الكتب الأولى التي تناولت الربيع العربي لحظة فورانه، وهذا قصب سبق يكاد بنجلون يحوزه كلّما تعلّق الأمر بظاهرة مستجدة، كتناوله ظاهرة الحجاب مثلًا، في حمّى النقاش حوله، ينصّب نفسه مدافعًا عن صمت المثقفين العرب وبطئهم في مساندة الجماهير التي خرجت إلى الشارع مطالبة بالحرية والكرامة، ورافعة شعارًا راديكاليًا، عنوانه الوحيد "إرحل". 

يقول "من فضلكم، فلنكفّ عن هذا الشجب للذات، الذي لا أساس له: (المثقفون العرب لا يتحركون). هم لم يتحركوا فحسب، بل عرّضوا أنفسهم لمخاطر، لم يعرّض أي مثقّف غربي نفسه لها قط". 

وبعد أن يزيح بنجلون الاتهام عن المثقفين العرب، يذكّر بنضالاتهم قبل عقود في بلدانهم من أجل حرية وكرامة شعوبهم. 

فـ "صمت المثقفين العرب" لا يستند على أي صدقيّة، فقد قدم هؤلاء حياتهم وحريتهم واستقرار عيشهم ثمنًا لمواقفهم، ويذكر في هذا الصدد أن هناك لائحة، دائما موجودة، لدى المنظمات الحقوقية تتضمن أسماء من قدّموا حياتهم في سبيل أن تنال الشعوب العربية حريتها، وتخرج من وضع الوصاية الذي كانت تعيشه، وما تزال، تحت نير أنظمة فاسدة. 

وإذا كان هدير الربيع العربي قد جاء من فورته المفاجئة، ومن الخروج غير المتوقع للجماهير الغاضبة، ومن تلقائية ذاك الخروج غير المؤطر، فإن ملامح الربيع، لطالما تكهّن بها المثقّف العربي، وعمل على تهيئة ثمارها. فبنوعٍ من التفاؤل، يكتب بنجلون : "إن أكبر انتصار لهذا الربيع أن يأتي من نضجه. لقد خرج الناس إلى الشارع بطريقة عفوية وأصرّوا على المضي إلى النهاية من دون أن يأتمروا بأوامر أي قائد أو زعيم أو حزب أو حركة دينية". 

وتعزيزًا لتفاؤله يصوغ هذه الصورة الشعرية الراقصة "هنا يكمن الانتصار: ثورة طبيعية على غرار ثمرة يانعة، سقطت ذات يوم شتوي من تلقائها، مسقطةً معها ثمارًا أخرى: شرعت الأشجار تتراقص وكأنها في احتفال بهيج". 

وبنوع من اليقين، لا يتوقّف الطاهر بنجلون عن تبشير العالم بأن موجة الربيع العربي ستطفو عليه، وستعمّ مدن الصين وهوامش أوروبا. ربما هي نشوة عابرة، بعد مآلات الربيع المأساوية، يقول "ليس بوسع أحد الاستحواذ على هذه الحركة التي امتدّت أمواجها المتلاطمة بعيدًا جدًا. لقد وصلت إلى الصين، وربما ستبلغ ذات يوم الضواحي المهمشة لأوروبا". 

هل ما وقع في العالم العربي، ولا يزال الأمر جاريًا، ثورات؟ يجيب بنجلون يما يشبه التأكيد "إذا كان ممكنًا اليوم أن توصف حركات التمرّد على أنها (ثورات)، فلأنها أولًا وقبل كلّ شيء منصبة على مطالب ذات طابع أخلاقي ومعنوي". 

في السياق نفسه، يبرز بنجلون مسألة في غاية الأهمية، وتتعلّق بمفصلين اثنين، الأوّل أن التيارات الأصولية لم تفلح في ليّ أعناق هذه الثورات، رغم محاولة الركوب عليها أو تجييرها لصالحها، كما أنها كنست الأشكال القديمة للعمل السياسي مستفيدة مما توفّره منصات التواصل الحديثة. 

المفصل الثاني، أن الثورات العربية أخذت مصيرها بيدها: "من دون أعذار أو تأثيم للعالم"، كما كان يحصل في انتفاضات الشارع العربي، حيث كان العدو خارجيًا. لقد أصبح العدو اليوم داخليًا، وقد توجّهت إليه الجماهير مباشرة وطالبت برحيله عن السلطة. 

هذا هو طريق "الكرامة المستعادة" الذي يصفه بنجلون، وهو طريق تنبّأ فيه الكاتب المغربي بانتصار الجماهير على أشكال الدكتاتوريات التي أعاقت التنمية، وفرمت لحم التحديث، وهرّبت مقدّرات الأوطان إلى الخارج، وانتهت بأن جعلت البلدان العربية سجونًا واسعة لقصّ أجنحة الحرية. 
لقد كان ذلك التاريخ الطويل من الاستبداد، لحظات مؤلمة، من القهر ومن تذويب الأحلام ومحو المطالب المشروعة وتعليق التطلعات نحو أفق الكرامة. 

وفي هذه النبوءة الدامية يرى بنجلون أن الثورات العربية لا بدّ أن ترتكب أخطاء، وسوف تحيد عن خطّها العام، ولكن ذلك لن يؤدّي حتمًا إلى وأدها، ولا إلى الإجهاز على جمرها. وبما يشبه النظرة الاستشرافية يكتب : "سوف يرتجلون، وربّما سيرتكبون أخطاء، لكنهم يعلمون جيدًا أنهم سوف لن يعيشوا مرّة أخرى كأنذال مسحوقين تحت سلطة دكتاتور، مستنيرًا كان أم وضيعًا، مضحكًا كان أم متوحشًا". 


المساهمون