أول وآخر عسكري ديمقراطي عربي

أول وآخر عسكري ديمقراطي عربي

20 أكتوبر 2018

عبد الرحمن سوار الذهب

+ الخط -
نشر الأزهر الشريف، أول من أمس الخميس، نعياً للرئيس السوداني الأسبق عبد الرحمن سوار الدهب. وصف شيخ الأزهر الراحل بأن التاريخ سيظل يذكر مواقفه "الحكيمة والمشرّفة في التجرّد لوطنه وأمته". لم يذكر البيان مثالاً على هذه المواقف، لكن من المعلوم بالضرورة أن أبرزها تنازله الطوعيّ عن الحكم بعد وصوله إليه بانقلاب عام 1985، حيث غادر السلطة بعد أقل من عام، فور عقد انتخابات ديمقراطية فاز بها حزب الأمة الذي تسلم رئيسه الصادق المهدي رئاسة الوزراء عام 1986.
ولعل في فرادة هذا النموذج ما قد يمثّل تفسيراً لانخفاض ملحوظ في إبراز الإعلام الرسمي العربي الحدث، كما أن جهة رسمية أخرى في مصر لم تنعَه كما فعل الأزهر الذي تتزايد أخيرا خطواته لإبراز مسافةٍ ما بينه وبين الدولة.
ما قد يغيب عن النقاش العام اليوم تفسير لماذا لم تتحول تجربة سوار الدهب إلى نموذج، وبدلأ من أن تتأثر دول عربية أخرى به، سرعان ما اختفت آثار تجربته في السودان نفسها التي سرعان ما شهدت انقلاباً أنهى الديمقراطية عام 1989 على يد الرئيس الحالي عمر البشير وحلفائه من الإخوان المسلمين وقتها.
وفي حوار صحافي أجراه سوار الدهب عام 2009 مع صحيفة الشرق الأوسط، عند وفاة الرئيس الأسبق جعفر نميري، لم يذكر الرجل إلا بخير، معتبراً أنه حقّق للسودان "كثيراً من الإنجازات"، خصوصا في مجالات الزراعة والصناعة، فضلاً عن أنه "طوّر القوات المسلحة السودانية، وجعلها قادرةً على الدفاع عن السودان ووحدته". وأشار سوار الدهب أيضاً إلى أن نميري حين ألغى الأحزاب، وأسس "الاتحاد الاشتراكي" حزب سلطة وحيدا مثال التجربة الناصرية، فإنه كان حسن النية، لأنه كان يعتقد أن الحكم الشمولي يتيح الفرصة لتنفيذ المشروعات بصورة فاعلة وسريعة، قياسا بالحكومات الديمقراطية.
لكن هذا الرأي الذي يقدّم تفسيراً متصالحاً، بشكل ما، مع المرحلة الأولى من حكم نميري التي شهدت تطبيق الاشتراكية والتأميمات، لا يفسر كيف دبّ الخلاف داخل مكونات تحالف الحكم الاشتراكي نفسه، وانتهى بسحق الحزب الشيوعي السوداني وإعدام قياداته، وفي مقدمتهم سكرتير الحزب عبد الخالق محجوب. كما لا يفسّر تحول نميري لاحقاً، وبشكل مفاجئ إلى إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان عام 1983، وأولى خطواتها، أو ربما الخطوة الوحيدة، تطبيق الحدود الجنائية جلداً ورجماً وقطعاً، وكان ذلك من أسباب تجدّد الحرب في الجنوب، وسرعان ما تم إعدام رئيس الحزب الجمهوري، المفكر محمود محمد طه، بتهمة "الرِدة"! وفي التفاصيل، لم يكن قرار "تطبيق الشريعة" أكثر من أداةٍ سياسيةٍ للالتفاف على احتجاجات شعبية، وحركة إضراب شهدها القطاع القضائي تحديداً في ذلك الوقت.
بقى سوار الدهب حارساً أميناً لنظام نميري خلال 16 عاماً شهدت كل هذه التحولات، إلا أن موقفه تغير حين اكتشف بنفسه انعدام شعبية نميري، فقد حكى أنه شخصياً كان من الداعين إلى "مليونية الردع" لحشد أنصار نميري ضد مظاهرات معارضيه، ففوجئ بعدد هزيل من المشاركين.
يبدو إذن أن جزءاً من فرادة تجربة سوار الدهب أنه، على الرغم من أنه رجل شريف بلا أطماع شخصية، أنه كان أيضاً بلا توجّهات سياسية محدّدة. تحرّك انحيازاً لمطالب شعبه وإنقاذاً للوضع الأمني، لكنه لم يُعن بإنشاء بنى راسخة تحمي الديمقراطية، وهو ما يشترك في المسؤولية معه حكّام حزب الأمة. تحتاج الديمقراطية، في مرحلتها الأولى، وعياً تاماً بمدى هشاشتها، وإجراءات مُخططا لغرسها عميقاً في المجتمع ومؤسسات الدولة، من دون ارتكانٍ لاطمئنانٍ زائف. وهكذا سرعان ما تم طي هذه الصفحة لصالح سلطويةٍ يمكنها بناء التنظيم والخطاب، وانتهى "الربيع السوداني" مبكّراً جداً، وهو ما يذكّر بنهاية "الربيع الجزائري" في وقت قريب منه، ليشهد الربيع العربي بعدها بعقود مصيراً مشابهاً، ولعلنا نأمل إذا وصلنا إلى دورة تاريخية جديدة يوما ما ألا نسمح له بإعادة نفسه كَرةً ثالثة.