إلى سمير فرنجية: رسالة لا تنتظر جواباً

إلى سمير فرنجية: رسالة لا تنتظر جواباً

13 ابريل 2017

سمير فرنجية.. اعذرنا إن عدنا إلى سماع صوتك

+ الخط -
خرجتَ على القبيلة مع من خرجوا، وتنكّرت لعصبية الدم. لا يؤسس الحبر قبيلة، ولا يلحم عصبية، وحين جعلتَه في حياتك الصاخبة متنا انتهيت مشرّداً، وها أنت تغادر هذا المشهد الأليم يتيماً بين يتامى، وغريباً بين غرباء.
لم نخسرك بموتك، بل قبل ذلك بزمن بعيد، فقد تراكم خسرانك، وتدرّج مع كل انتشارٍ للقطعان، ومع كل توسعٍ للمضارب التي تقيمها القبائل اللبنانية الجديدة والقديمة على مساحة الجمهورية. وحين مضى من بين مجايليك من يحزم أمتعته، ويخنق صوته، ويعود إلى حضن الجماعة، في أوسع عملية انهيار ثقافي وسياسي عرفتها بلادك، وقفت في صحن الدار شغوفاً بالنبرة الفريدة وبنور المستقبل، فربحك أصحاب الأمل وصانعوه علامةً بين العلامات الكثيفة بدلالتها على معنى الحياة. لقد صرعت المرض الفتّاك مراراً، وقبل أن يغلبك كان قد غلبك ملمّعو الأحذية وصناع الهزائم المنتشرون فطراً في الحياة السياسية اللبنانية. حين صمّوا الآذان دون نذيرك المتواصل. وغضّوا الطرف عن أصابعك التي تدل وتؤشّر، بدون كلل، على المصير المقبل بالدم والأشلاء.
تمدّد أمامنا خسرانك يوماً بعد يوم، مع كل تقلّص لأخلاق البناة، ومع كل انتشار لأخلاق القناصين. مع كل انحسار لمواقف النبلاء، وكل صعود لحديثي النعمة. لا مكان في هذه البقاع لرجلٍ مثلك، لم يرث من بيت أبيه إلا ما صعب عليه التفريط به: النبل والكبرياء وصرف الحياة في البذل.
نشرتَ وأسست دور نشر. أنشأت صحفاً وكتبت في صحف. حاضرت وأدرت منتدياتٍ
وأشرفت على مؤتمرات. انخرطت في أحزابٍ ونظمت تجمعاتٍ. وعند كل أزمةٍ، أو منعطف يهدّد اللبنانيين مجتمعاً ودولة، كان لك حضور بليغ وصوت عاصف وإبداع للمخارج. كنت لبنانياً من دون تزمّت، وعربياً بغير ضيق. لم يكن انخراطك في الحياة السياسية إلا امتداداً لموقف المثقف الذي كنتَه بجدارة. المثقف الذي رسمت صورته الثقافة الفرنسية على مدى السنين، والتي كنت بين تلامذتها المجيدين. نبذت كل عصبيةٍ، وانتصرت للعقل، فشغلتْ مفردة الحوار أوسع مكان في قاموسك. وأصبح الحوار علماً على كل نشاط يحركك، ولازمةً من لوازم وجودك الفاعل.
خضت العمل السياسي، وبقيت غريباً بين السياسيين، لأنك كنت غريباً عن الشعبوية التي أصبحت مهارةً وصنعةً وآليات عمل. انشغلت بتجديد معنى المواطن والوطن، وبالصياغة الخلاقة للآفاق، فيما حولك تنهض الإحصاءات، وترتفع الجداول التي تحيل المواطنين أعداداً وأرقاماً موزّعة على الحظائر. لا يتم التعرف إليهم إلا في هوياتٍ ممسوخةٍ بلا عمقٍ ولا اتساع.
لقد سردت بحياتك سيرة كاملة لجيل كامل. ولدت ابناً لحميد فرنجية، أحد أبطال الاستقلال، وأحد أكبر القادة اللبنانيين نبوغاً وثقافةً ونزاهةً وسعة أفق. وعرفت جيداً بماذا تتزوّد من سيرته، وبأية خميرة تعجن خبز الآتي من الأيام. وحين وقعت النكسة في العام 1967، وكنت ما تزال طالباً جامعياً، عصفت بك السياسة كما عصفت بكثيرين من أبناء جيلك، فانحزت إلى الحركات اليسارية مناضلاً، وكان تعرّفي بك في تلك الأثناء، وأنت تجوب مناطق الشمال، تقيم الندوات وتنظم اللقاءات مع الشباب والطلاب، بهمة وعزيمة. وكان هدوؤك ووقارك سمتين بارزتين في شخصك وحضورك.
كنت مقنعاً، لأنك كنت مفكراً، وكنت تمتلك جاذبية المبدعين. لذلك، حين يدور الحوار وتطرح
الأسئلة كان كلامك وازناً ورأيك بثمن. جرّبت كل الوسائل التي تفضي إلى التكاتف، وتكثيف الجهود من أجل تجديد معنى الوطن، ومد المجتمع بالقدرة على استيعاب المعاني الكبيرة، وإغناء مضامينها من حرية وعدالة وتجدّد ونماء. ميّزك انتماؤك إلى طينة المثقفين، فكنت صديق الكتاب والشعراء والفنانين. ولذلك أيضاً كان انشغالك بالسياسة كالمنشغل بأحد الفنون الجميلة، لا مغرضاً ولا ساعياً إلى مكسب، بل محباً للأفكار الجديدة، تراها برّاقة نضرة، تلمع فوق المدينة المشتهاة.
كان لبنان، بموقعه تاريخاً وجغرافيا، أرضاً خصبة لاختبار الأفكار المتنوعة حول الانتماء والتعدّد والاختلاف والعيش معاً. فشغلك التعرف بالآخر، وأثرى رؤيتك، ونأى بك بعيداً عن طينة العنصريين والطائفيين واللاعبين بالمصائر. أنشأت سحرك الخاص من ذلك الانزياح الذي صنعته داخل انخراطك المجتمعي، ساعياً إلى مهر السياسة بالثقافة والثقافة بالسياسة.
يا سمير: اعذرنا إن عدنا إلى سماع صوتك في غيابك، فحين تدار السياسة بعقول الصيارفة وأخلاق أسياد القبائل، لن تغادرنا بهذا اليسر، وسيبقى الشعور بخسارتك راهناً، وعميقاً، والعودة إليك فريضة حج.
0994325B-4567-471E-81DA-5F1B1FA14B5C
0994325B-4567-471E-81DA-5F1B1FA14B5C
إميل منعم

رئيس القسم الفني في "العربي الجديد"، فنان تشكيلي

إميل منعم