ديكتاتوريات متشابهة

ديكتاتوريات متشابهة

24 اغسطس 2019
+ الخط -
شاهدت، قبل أيام، فيلم "آخر ملوك إسكتلندا"، وهو من إنتاج عام 2006 عن رواية البريطاني، جايلز فودن، وإخراج البريطاني كيفن ماكدونالد، وبطولة فوريست ويتكار، الذي نال "الأوسكار" عن أدائه دور الجنرال عيدي أمين الذي حكم أوغندا بقبضة من حديد، بعد انقلابه على الحكم الشيوعي عام 1971، وقتل في عهده ما لا يقل عن ثلاثمائة ألف أوغندي من معارضي حكمه. .. ثمّة أحداث حقيقية ومبالغات درامية وخيال فني لعب دورا مهما في التشويق والإثارة، غير أن الفيلم بمثابة التحفة الفنية التي تُظهر تشابه المنظومة الذهنية التي تحكم بها أنظمة الاستبداد شعوبها، وتُظهر تشابه الخطاب الاستبدادي الذي توجهه هذه الأنظمة إلى الغرب، كما تكشف الدعم الخفي والمعلن الذي تمارسه السياسة الغربية للأنظمة الاستبدادية والعسكرية في بلدان العالم الثالث. 
ظهرت في الفيلم مشاهد شعرت مباشرة أنها في بلادنا العربية، فمشهد خطاب عيدي أمين إلى الأمة الأوغندية لا يختلف عن خطاب أي زعيم ديكتاتوري عسكري عربي، حيث يخاطب شعبه بوصفه حامي الأمة ومنقذها، والسائر بها نحو المجد والأعالي، واعدا الشعب بإنجازاتٍ كثيرة.. هل من زعيم أو جنرال لم يقدّم نفسه حاميا ومنقذا للأمة منذ خمسينيات القرن الماضي؟ وبالذهنية نفسها، يتحدث عيدي أمين عن نفسه بوصفه "أبا للأوغنديين" القائد الأب الذي لا يجوز لأحد أبنائه أن يخرج عن طاعته، وإلا فسيحل عليه العقاب، فالسلطة هنا ليست سياسية فقط، هي سلطة اجتماعية أيضا، بطريركية، مدعّمة بالقوة العسكرية. زعماؤنا العرب كلهم قدّموا أنفسهم أباء لشعوبهم، وهو أكثر ما يجذب العامة في خطاب الزعيم، ففي العقلية شعوب العالم الثالث التي لم تصل إلى مرحلة المواطنة، ثمّة نظرة مقدّسة للأب، بوصفه القوة والحماية لعائلته، التي سيصيبها الضعف والتشتت، فيما لو حصل سوء للأب.
تختلط هنا النفعية مع العاطفة مع الخوف، وهي صفاتٌ تتميز بها شعوب العالم الثالث، حيث يستقل الفرد ماديا وعاطفيا عن عائلته في عمر متأخر. وكثيرون من أفراد شعوبنا لا تتمكّن من الاستقلال النفسي عن الأب طوال حياتها، وهو ما تتيحه المواطنة، حيث للفرد حقوق تؤمنها الحكومة (ينتهي دور الأهل مع انتهاء مرحلة المراهقة)، بعلاقة حيادية متبادلة بينها وبين كل أفراد المجتمع. لهذا يصبح خطاب "الأب الزعيم" محبوبا من شعبه الذي يراه بعين العاطفة والمصلحة والخوف معا. .. في مشهد لا يُنسى في الفيلم، يقول عيدي أمين للدكتور الإسكتلندي كاريغان (لعب دوره جيمس مكافوي): "شعب أوغندا أبنائي، هم يرونني ويحبونني كأب لهم، ويخشونني لأنني الأب".
ولعل مشهد المؤتمر الصحافي الذي عقده عيدي أمين، في الفيلم، مع الصحافة العالمية، أكثر مشاهد الفيلم تجسيدا لتشابه الديكتاتوريات العسكرية الاستبدادية، حيث الخطاب الموجه إلى الغرب هو: "إننا أمة مستقرّة، وما يحدث لنا هو بسبب تآمر الحكومات الغربية التي لا تريد لنا الاستقرار. لهذا تروج عنا أكاذيب وتلفق أحداثا لا تحصل في بلادنا". عموم الأنظمة الديكتاتورية العسكرية تروج نظرية المؤامرة الغربية، وهو أيضا ما صدّقته غالبية شعوب بلادنا. ومع أن الغرب ليس بريئا مما يحدث لنا، إلا أننا أيضا أرض خصبة لسياساته ومصالحه التي تتطابق مع مصالح أنظمة الاستبداد، على الرغم من البروباغندا الإعلامية التي تحاول تقديم سردية مختلفة.
بعد مشاهدتي الفيلم، قرأت عنه في "ويكيبيديا"، فلفتت نظري الجملة "عيدي أمين كان وحشا وسفاحا تسبب بمقتل أكثر من 300 ألف شخص من أبناء أوغندا، حسب وجهة نظر الغربيين"! أي أن ثمّة اقتراحا، لدى من كتب عن الفيلم في "ويكيبيديا"، أن يكون ما يحكى عن وحشية عيدي أمين ليس سوى رؤية الغرب له، وقد يكون ما يقوله الغرب ليس حقيقيا! ولا يمكن لأحد أن ينكر أن هناك سرديات تاريخية مختلفة لحدث ما، غير أن لضحايا المجازر والإجرام حقيقة واحدة لا تغيّرها أية سردية محتملة، وهو ما كان عليه تاريخ أوغندا إبّان عيدي أمين، وهو ما كان عليه حكم صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي وكل الديكتاتوريات التي حكمت عالمنا الثالث أكثر من ستة عقود. هل سيقرأ أحد يوما أن بشار الأسد كان وحشا وسفاحا ودمر بلده، حسب وجة نظر الغربيين؟ هل يمكن أن يضع أحد احتمالاً مغايرا لإجرام نظام الأسد ذات يوم؟ للأسف، يحدث هذا الآن، وربما التاريخ سيبرّئه تماما من المجازر.

دلالات

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.