رسائل داعشية من نار

رسائل داعشية من نار

11 فبراير 2015
+ الخط -

"جُرد الرجل من ثيابه، ثم ربط لسانه، وأحكم وثاقه، وشُدَّ إلى خازوق من الحديد، فوق ركام من الحطب، وأحرق حياً، على مشهد من جمع غفير متعظ".
هكذا وصف المؤرخ ويل ديورانت نهاية الفيلسوف جيوردانو برونو، عام 1600، على مرأى من جمهور محتشد أخذه الذهول، ورهط من قضاة محاكم التفتيش الكنسية التي أصدرت القرار.
كانت تلك الحقبة الأسوأ والأكثر ظلماً وظلاماً في تاريخ أوروبا، حتى ظلت شعوب بأكملها تشعر بالعار من تاريخٍ لا يمكن تبريره، إلا بإدانته، ليس كلامياً، وإنما بسنِّ شرائع وقوانين تحفظ دم الإنسان وحياته وكرامته، جاعلة منه غاية، وكل مفردات الحياة وسائل مسخّرة لما يضمن بقاءه وارتقاءه على نحو أفضل.
ومع استمرار الحروب، استمرت الخروق للقواعد الإنسانية والأخلاقيات، إلا أنها لم تعد تشكل ظاهرة، بل حالاتٍ متفرقة في جنبات الأرض، لا دين لها ولا جغرافيا ولا انتماء. من النازية إلى كيماوي الأسد إلى نار داعش.
داعش التي يبدو أنها اقتدت بمحاكم التفتيش، في حكمها على الطيار الأردني، الأسير معاذ الكساسبة، في رسالة نارية إلى العالم، كل مضامينها وإشاراتها سياسية بحتة، لا دين فيها ولا إنسانية ولا أخلاقيات، ومفادها بوضوح: نحن أكثر إجراماً من نظام الأسد.
فبعد كل التسريبات والحقائق التي وقف عليها المجتمع الدولي، من إجرام آلة الحرب الأسدية، من الكيماوي إلى الحرق ودفن الأحياء والقتل تعذيباً وتجويعاً. كان من الصعب، إلى حدّ الاستحالة، على تنظيم عسكري، أن يشابه مليشيات الأسد، وفرق موته، في بشاعة ما تقترفه، إلى أن صعد نجم داعش، وبدأ يتدرج في الإجرام، مثبتاً نظرية الأسد الأولى عن "إرهاب" الثورة، مذ كان السوريون يحملون أغصان الزيتون، ويتسلحون بالنشيد والهتاف وقوة صوت الحق في مواجهة عتوّ جيشٍ مُعدٍ للقتل.
وشيئاً فشيئاً، بدأ الأسد يحصد ثمار إرهاب داعش، كما هو معد سلفاً، فعندما أدرك الطرفان أن قتل السوريين المدنيين لن يؤتي أكله، انتقلوا إلى مرحلة ترويع الناشطين والإعلاميين. وعندما لم يُجْدِ أيضاً، انتقلوا إلى المرحلة المؤثرة والحرجة دولياً، باستهداف الناشطين الأجانب، كلُّ ما تقع عليه أيديهم، عمال إغاثة، صحافيون. المهم أن يكونوا مواطني دول أجنبية، حينذاك، ستُحرج حكومات تلك الدول أمام مواطنيها والرأي العام، وسيصبح العالم كله على صلة وثيقة بما يحدث، وقد حدث، علماً أن جرَّ العالم إلى القضية، بعد أربع سنوات، لم يكن شيئاً سهلاً، خصوصاً بعدما تخلت كثير منها عن مسؤولياتها، إلا أن ذلك صار ممكناً، بل وأكيداً بعد إعمال سكين داعش في رقاب مواطني دولٍ ذات ثقل، وبينما كانت سكين داعش تحز رقاب الصحافيين اليابانيين، كانت آلة الأسد السياسية والإعلامية تواكب الجريمة، بتسويق نظامها على أنه المخلص الوحيد من سطوة تلك السكين، وكذلك ستفعل في ما يخص قضية الطيار الأسير، بل ستصعد من لهجتها، لتصدر نفسها على أنها الممر الأكيد إلى منطقة منزوعة الإرهاب!

أجمع العالم حكوماتٍ وشعوباً على إدانة ذبح الناشطين الأجانب، وكذلك بالنسبة للطيار الكساسبة، وسنرى إداناتٍ أكثر تتعاظم، وتضع العالم صفاً واحداً في مواجهة القتلة، ولم يفعلوا ذلك، أو أقل منه، تجاه مقتل مئات آلاف السوريين الأبرياء، وبأبشع الطرق، ما أثار نقمة طيف واسع من السوريين، وهذا حق أخلاقي، لا مراء فيه ولا جدال، إلا أن المشهد الصعب والمفصلي الذي تمر به الثورة، ومصير البلد، يستدعي روية أكثر، وحنكة سياسية، تمليها الظروف والأمر الواقع، انطلاقاً من أرضية سياسية ثابتة، مفادها بأن الدول مصالح، وأنه لا أحلاف إلا بإيجاد تقاطعات واقعية مع الدول المتحكمة بالقرار، والقادرة على فرض تغيير على الأرض، وهذا تماماً ما يعمل عليه نظام الأسد، من خلال فرض أمر واقع، يفضي إلى تعامل سري بين أجهزة استخبارات عالمية وأجهزته، ما يعني إعادة شرعنته على مراحل، فالشراكة لا تتجزأ، والتعاون الأمني مشروط بتعاون سياسي ولو بعد حين.
العنتريات لا تحسم معركة، ولا تنصر ثورة، والمساومة على مبادئ الثورة جريمة إنسانية وسياسية. لكن، بين هذين طرق كثيرة يمكن سلوكها، فبدل البحث والتنقيب، في كتب التاريخ والفقه، عن حوادث وأحاديث ضعيفة، تُشرْعِنُ حرق الأسير، يمكن بكل يسرٍ ردُّ الحادثة إلى تواريخ وحقب غير إسلامية، منبوذة ومستنكرة من العالم أجمع. وبربط الجريمة بممارسات نظام الأسد، ومصالحه، يمكن الخروج برؤية واضحة، ومقولة تعود بنا إلى بهاء ثورتنا الأول، الثورة التي أرسلت إلى العالم رسالة حق وعدل ووجه خير سافر، لا رسالة ذبح وحرق وملثمين.

avata
avata
ياسر الأطرش (سورية)
ياسر الأطرش (سورية)