في بيتنا عبد السلام النابلسي

في بيتنا عبد السلام النابلسي

30 مارس 2015
بيروت عام 1965 (Getty)
+ الخط -


أتاح عمل جدي في الوسط الفني والأدبي استقبال العديد من الفنانين في منزله. كان المنزل الصيفي لجدي عبارة عن مبنى مؤلف من ثلاثة طوابق في منطقة صوفر الجبلية. كان لبنان حينها يعيش فترة الازدهار منتصف ستينيات القرن الماضي. كان البيت مرفقاً بحديقة كبيرة زرع فيها جدي التين واللوز والنعناع، وتدلّت من جوانبه دالية عنب كبيرة. تحت هذه الدالية استضاف جدي عشرات الفنانين المصريين.

روت لي والدتي كيف وقفت مع أخواتها تتلصّص على سعاد حسني. أخبرتني كيف طاب للنجمة المصرية الجلوس في الحديقة والتغني بجمال طبيعة لبنان، حيث رددت أكثر من مرة: "بحب البلد دي أوي". غارت الفتيات حينها من النجمة الجميلة حتى اتفقن على سبب لانتقادها. "قصيرة القامة"، ردّدت إحداهن. حسن يوسف كذلك زار بيت العائلة يوماً. حكت لي الوالدة عن خفة دم الممثل القدير وأناقته.

كان بيت جدي يشبه لبنان كله. ملقى المبدعين عرب وأجانب. كانت سهرة بيت العائلة لا تخلو من وجود نجم شهير يرمي قناع الشهرة خارجاً ويدخل. وحده إسماعيل ياسين كان يشبه نفسه. اختار الفنان الكوميدي تقليد عبد الحليم حافظ. وقف ياسين ملوّحاً بيديه لفرقة موسيقية وهمية وغنّى: سواح وانا ماشي ليالي. كلمة سواح بحركة فمه الشهيرة، كانت تضحك الجميع. كان الجيران يسهرون على شرفاتهم بانتظار خروج الممثل أو الفنان من بيت جدي حتى وقت متأخر بغية نيل توقيعه أو التقاط صورة معه.

لا تنسى أمي زيارة الفنان عبد السلام النابلسي. مكث النابلسي عدة أيام في بيت جدي مستمتعاً بطبيعة البيت الجبلي وهواء منطقة صوفر اللبنانية. المدة الطويلة التي قضاها النابلسي، جعلت العائلة تكتشف فيه عادات لا يعرفها الكثيرون. كان النابلسي شديد النظافة لحد "الوسواس". كان يحرص على تغيير أغطية سريره ثلاث مرات يوميّاً. وكان مهووساً بحلوى "غزل البنات". فقد كان يطل على الشرفة ويسأل: الراجل بتاع "غزل البنات" مش حييجي؟ كان الجميع يناديه حين يطل بائع الحلوى، لا سيما الفتيات الصغيرات اللواتي كان النابلسي يناديهن: يا بنات هاتولي غزل البنات. يرمي القروش من الشرفة، فيهرولن لشراء الحلوى له.

القصة الأظرف التي حصلت مع النابلسي في بيتنا حين قررت خالة جدي زيارة منزل العائلة. كانت الخالة ضخمة البنية وحادة الملامح كالرجال. قررت الخالة زيارتنا ليلاً، فيما كان النابلسي نائماً. دفعها الفضول لرؤيته، فطرقت باب غرفته. قال النابلسي: اتفضّل. دخلت الخالة على وقع الإنارة الخفيفة. وقف النابلسي على السرير وقفز بعد رؤيته الخالة بكحلها الأسود، قائلاً: يا دي المصيبة، أمنا الغولة جت، ده مش منام، والله شفت الغولة. ركض النابلسي باتجاه الحديقة، خائفاً من الخالة. لم تنس العائلة هذه الليلة المضحكة.

مات جدي ومات معظم هؤلاء الضيوف. البيت نفسه مات، بعدما خرجت الذكريات منه كالأرواح الجميلة التي تعيش في مخيّلة أحفاده دون أن تموت.

دلالات

المساهمون