في نقد التفسيرات الرائجة عن الحالة السياسية في مصر

في نقد التفسيرات الرائجة عن الحالة السياسية في مصر

19 أكتوبر 2018
+ الخط -
البندول هو التشبيه الأقرب للتفسيرات المتعددة في سوق التحليلات السياسية الرائجة في الفضاء الثقافي والإعلامي العربي حول الأوضاع في مصر؛ ووجه الشبه أنها تراوح – في حركة بندولية وبدون مبررات كافية - بين اعتبار ما يجري في مصر بداية النهاية للنظام الحاكم، وبين اعتباره علامة على تعافي النظام ونجاحه في التنكيل بخصومه وتحييدهم أو تهميشهم وإقصائهم.

بات لكلا الطرحين - النظام يرسخ بقاءه مقابل النظام يترنح - مروجوه وباحثوه المسؤولون عن تسويقه عبر النوافذ الصحافية والإعلامية، وأصبح صنّاع الإعلام يستدعون عند كل حالة من يتناسب خطابه - في تلك اللحظة - مع توجهات أصحاب النافذة الإعلامية أو الصحافية، دون اهتمام بالبحث عن توصيف حقيقي وواقعي لما يحدث أو تأويل علمي موضوعي محايد له.

وضع أقرب للسوق تروج فيه السلعة - حتى لو كانت فكرة أو معلومة أو تحليل - الأكثر شعبية والقادرة على جذب مستهلكين جدد، حتى لو كانت واضحة التحيز وبينة الخطأ، وتكسد فيه السلعة التي تثير سخط الجماهير ولا تحوز رضاهم، ولو كانت الأقرب للحقيقة، وفي هذا السياق يصبح الرواج والقبول الواسع هي علامات الصدق وليس الاقتراب من الحقيقة والوقوف عليها.

الطرح الأول: يؤكد بشكل لحوح ومستمر أن هذه التغييرات الخطيرة والمفاجئة في بنية النظام؛ من قبيل اعتقال مسؤولين كبار وإقالة آخرين وتصريحات معارضة أو تصريحات رسمية منددة بمواقف القوى المعارضة وغيرها من تغييرات، كلها تدل على أن النظام يسير في خطى ثابتة في مسار إعادة إنتاج قوى داعمة له، وفي رسم معادلة جديدة للحكم تتناسب مع رؤيته وتوجهاته، وفي استبعاد وتهميش وإقصاء أو تحييد أو دمج واستيعاب العناصر والقوى المشاغبة، وأن النظام يحقق نتائج إيجابية كبيرة في مسعاه للسيطرة وتحقيق الاستقرار.

ويؤكد أصحاب هذا التوجه أن الصراع والتنافس والصدام والتقارب والتحالف والتعاون كلها تفاعلات حتمية الوقوع داخل النظام باعتباره حيزاً يحوي كثيراً من القوى والفاعلين، وليس مجرد جهاز هيراركي صارم. بل يمكن القول إن هذه التفاعلات المستمرة علامة على حيوية النظام وفاعليته، ومؤشر على قدرته على الاستمرار والبقاء، وأن تراجع هذه التفاعلات وخفوتها لهو بداية تحلل النظام وتفككه.

وأن استعار حدة الصراع بين أجنحة السلطة مسألة مقبولة في ظل عدم الاستقرار على معادلة للحكم عقب سقوط منظومة (معادلات) الحكم التي كانت سائدة على عهد الرئيس الأسبق مبارك، وأن صراع قوى السلطة نتيجة طبيعية لمحاولة كل طرف تحصيل أكبر قدر من الهيمنة والنفوذ في المعادلة الجديدة قيد التخلق.

الطرح الآخر: يشدد بشكل متكرر - عند كل تطور كبير أو تغير مفاجئ - أن النظام الحاكم في مصر يعاني، وأنه مأزوم، وأن شرعيته تتآكل بصورة مستمرة، وأن شعبيته وصلت إلى أدنى مستوياتها، وأن الكتلة الكبيرة التي قادت حراك الثالث من يوليو 2013 قد تآكلت بفعل الخلافات المتفاقمة وبفعل رغبة النظام في السيطرة والتأميم والاستئثار بكل خيوط اللعبة بشكل منفرد، وتهميش كل القوى المشاركة في إنتاج دولة ما بعد الثالث من يوليو.

وأن الانهيار هو مصير النظام الحالي مع تداعي تحالفاته وتصدع أركانه، وأن صراع أجنحة النظام بات سمة المرحلة وأصبح يطبق على رقبة نخبة الحكم. وأن نجاح النظام في تحقيق الاستقرار والحفاظ على بقائه حتى هذه اللحظة؛ جاء نتيجة إجادة النظام التعامل مع الأخطار والتحديات التي تحيق به، وقدرته على حسم الصراعات لصالحه، ما يعني أن الصراع داخل النظام حقيقي، وأنه سيستمر خلال فترات مقبلة، وقد يجهز على نخبة الحكم، وقد يغير المعادلات السائدة أو يطيح شخوص الحكم وقادته، ومن ثم يعيد رسم ملامح المشهد السياسي من جديد وبشكل جذري.

في النهاية: يبدو أن المبالغة هي السمة الأبرز للتحليلات والتفسيرات الرائجة عن المشهد السياسي المصري، بالطبع لا يصح القول إنها تخلو من أية صوابية أو منطقية، لكن أفسدت مبالغاتها ما فيها من منطقية أو قدرة على التفسير.

ويمكن اعتبار هذه المبالغة في الطرح نتيجة التغيرات المتلاحقة في الأحداث؛ مما لا يسمح بالتوقف لـ "التقاط الأنفاس" والنظر والتأمل بشكل هادئ ومنضبط وموضوعي في حقيقة التطورات المتلاحقة في المشهد السياسي المصري؛ أسبابها وتداعياتها ومآلاتها.

هذه النقاط المثارة تستدعي ضرورتين؛ الأولى: بناء إطار نظري قوي وعميق يمكن من خلاله إعادة بناء المشهد بصورة تجعله أكثر وضوحاً وانكشافاً أمام الباحثين، ما يقلص من ضبابيته وغموضه. الثانية: إجراء المقارنات بين التجربة المصرية (في وقتنا الراهن) والتجارب المشابهة والقريبة، سواء كانت هذه التجارب تخص مناطق جغرافية أخرى، أو وقعت في بلادنا لكن في فترات زمنية أخرى - مثل تجربة الدولة في الحقبة الناصرية.

في النهاية ينبغي الإشارة إلى أن النسبية والعجز عن الوصول إلى حقائق مطلقة ونتائج يقينية هي سمة أساسية في حزمة العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ ومن ثم يصبح من الضروري القبول بهذه النسبية والتعامل معها باعتبارها أمراً واقعاً لا يمكن الفكاك منه.

دلالات