كل عام وأنتم بخير يا مسيحيي بلادي

كل عام وأنتم بخير يا مسيحيي بلادي

30 ديسمبر 2015
+ الخط -
ككل عام، حين تشارف السنة على نهايتها، تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بالسؤال الأزلي: هل يجوز تهنئة المسيحيين بعيد ميلاد السيد المسيح ورأس السنة؟ وكان هذا العام أشد اشتعالا، ربما بسبب توافق ذكرى مولد الرسولين، محمد وعيسى، صلى الله عليهما وسلم، وربما بسبب "تغوّل" وسائل التواصل الاجتماعي أكثر فأكثر في حياتنا.
ترافق هذا مع عيد ميلادي، وفوجئت بموقعيْ "تويتر" و"غوغل"، وما لا أعرف من مواقع إلكترونية عالمية، تقوم بتهنئتي بعيد ميلادي، والحقيقة أنني شعرت بسعادة ما، على الرغم من أنه فعل "آلي"، لكنني فرحت، وشعرت بغصّة في آن واحد، لأن ثمّة من قومك من هو مشغول بـ "جواز" تهنئة "النصارى" بعيد ميلاد السيد المسيح!
بالمناسبة، أصدقائي المسيحيين.. عيد ميلاد مجيد، وقبل أن أنسى: كل عام وأنتم بألف خير.
للتوضيح، تغيّر شكل الصفحة الرئيسية في موقع غوغل يوم 22 /12 /2015، وامتلأت كلمة "google" بسلال الحلوى والزهور، وما أن وضعت المؤشر عليها حتى ظهرت عبارة "كل عام وأنت بخير يا حلمي". كما مع موقع "تويتر"، فما أن فتحت صفحتي، حتى امتلأت بالبلالين الملونة، وظهرت لي عبارة التهنئة نفسها بعيد ميلادي.
ليس سؤال جواز التهنئة من عدمه سؤالاً عابراً، فهو مؤشر على مشكلة كبيرة بحجم وطن، منشغل باستدعاء فتاوى معلبة، قيلت قبل أكثر من ألف سنة، لحل مشكلات، أو الإجابة عن تساؤلات، تحدث اليوم.
من حيث المبدأ، لعلماء الإسلام الأول كل الاحترام والتبجيل، فلم يقصّروا في حمل العلم
الشرعي والإنساني للأجيال اللاحقة، وهم أيضاً لم يقصروا في حفظ الإرث الإنساني الإغريقي أيضاً، ولو لم يحفظوا ما تركه فلاسفة اليونان وغيرهم لاندثر، وخسرت الإنسانية ذاكرتها الفكرية والفلسفية، بل أضافوا عليها إضافات نوعية، تظهر باحتفال جامعات الغرب بكبار فلاسفة الإسلام وفقهائه، كابن رشد وابن سينا والفارابي، وغيرهم كثيرون. وقد اجتهد علماء الإسلام، وفقهاؤه الكبار، في تفسير النصوص، وجمع الحديث، وشرحه، والتأصيل للفقه، لكن أحداً منهم لم يقل إن ما فعلوه كان "ديناً" لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. المشكل الذي وقع فيه المعاصرون، علماء وأتباعاً، أنك ما تكاد تسأل أحدهم عن مسألةٍ فقهية، حتى يستدعي ابن تيمية أو ابن القيم أو الشافعي، (ولهم كل الاحترام) ليجيب عن سؤال مطروح في الألفية الثانية للهجرة، في الميزان العلمي. هذه "فتاوى معلبة"، وقد جعلت قلة من علماء هذا العصر من فتاوى الأقدمين وفهمهم نبراساً لهم، ومرشداً، لا حكماً قاطعاً، لا اجتهاد في موقع نصهم!
مشكلة المشكلات، هنا، أيضاً أن القداسة التي اكتسبها النص القرآني، وما ثبت عن رسول الإسلام، صلوات الله وسلامه عليه، انسحب على "نصوص" علماء الدين، وخصوصاً فقهاء المذاهب المعروفة، أربعة كانوا أو خمسة، أو أكثر، ولئن كانت المشكلة كبيرة في دنيا أهل السنة، فهي أكبر وأعظم في دنيا أهل التشيع، حتى ولو أولى هؤلاء مساحة أكبر للعقل والفلسفة.
استمعت، يوم الجمعة الماضي، إلى خطبة أحدهم، وهو يكفّر من يستهزىء بالثوب القصير واللحية والسواك، باعتباره مستهزئاً بسنن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وقد أورد الخطيب الهُمام نص فتوى بهذا الخصوص لأحد علماء "السلف". وثمّة سهولة يلجأ بها هؤلاء وأولئك من فقهاء الصحراء، لتكفير الناس، واحتكار العلم والتقوى، والجنة أيضاً، حيث يُشعرونك أن مفاتيح النار والجنة في جيوبهم، فيهبون من يشاؤون مغفرة، ومن يشاؤون تجريماً، بل يكيّفون نصوص الفقه لتحويل الناس إلى خراف أو ذئابٍ، حسب مقتضى الحال، فهم بين قاطع رأس، أو مطأطئ رأسه، ما بين سلفية "جهادية!" وسلفية "علمية!"، وديننا وسط بينهما. وتعجبني مقولة للزميل عريب الرنتاوي "نحن أهل الشام، أبناء هذه المنطقة بفسيفسائها الدينية والمذهبية والقومية والعرقية، لا نحتاج لفقهاء البوادي والقفار البعيدة، لتعليمنا أمور ديننا... نحن أصحاب الدين الوسطي المتسامح المعتدل الصحيح... نحن أبناء الشعب الواحد، مسيحيين ومسلمين، فسنظل أوفياء لإرثنا المشرقي الوارف والمديد.. سنبقى مخلصين لإرث الرواد الأوائل من الآباء والأجداد، الذي لم يعرف التمييز طريقاً إليه".
يجرح مجرد طرح السؤال الذي بدأت به هذه المقالة شعور الفطرة السليمة، فضلاً عن الأذى الذي يسببه تحريم تهنئة أشقاء الوطن والمصير بأعيادهم. لا تتسق هذه الفتاوى وغيرها مع طبيعة مجتمع مختلط، فيه المسيحي والمسلم، ممن يحيون حياة مشتركة، يأكلون ويشربون ويعملون مع بعضهم، ويتصاهرون ويرى بعضهم بعضاً كل حين، حتى إذا جاء عيد أحدهم حَرُم على الآخر أن يهنئه به، وكأن التهنئة تعني اعتناق دين المهنأ. لست فقيهاً ولا أفتي، ولا أجرؤ على هذا، لكنني لا أستسيغ مثل هذا الكلام، حتى ولو صدر من كائنٍ من كان، ومن "فقهاء" يحوّل بعضهم الناس، بفتاواهم، إلى "سبايا"، ويحقنونهم بمطعوم الاستكانة والخنوع والسكوت على الظلم، ومسايرة الظلمة و"ستر عيوبهم".. طاعة لله ولرسوله وولي الأمر!
استفتِ قلبك، وإنْ أفتاك الناس، وكل عام وأنتم بخير، يا مسيحيي بلادي.