مـــا الــــــــعـمـل؟

مـــا الــــــــعـمـل؟

18 أكتوبر 2014
+ الخط -

أوردت جدتي، أمس، حديثاً روَتْه عن أمها؛ "الحسود لا يسود، وعينها يثقبها عود". وعلى الرغم من إيمان جدتي بأن هذا مجرد كلام لا سند له، كانت تبالغ في تحذيرنا، نحن الإخوة، من شر الحسد، خصوصاً في سياق السياسة.

اعترض عليها أخي الأكبر، مُوضحاً لها أن لا صلة للحسد بتدبير الشأن العام، فردّت عليه، وهي تلعن الشيطان الموصوف بالخناس الذي يوسوس في صدره، واصفة إياه بالعدمي، وهي تؤكد لنا على الالتزام بما نسبته لأمها، رضوان الله عنها. وأن السلف لم يترك للخلف ما يقول حسب زعمها، مستشهدة بقتل قابيل هابيل، كأول جريمة في التاريخ، سببها الحسد، كما رُوي لها في مجلس عجائز عند معلمة تحارب أميتهن.

احتدم نقاشها مع أخي طويلاً. ولم يدُم صمتها الذي أبان عجزها عن الخوض معه، لما أوضح لها أن الأفكار تسكن عقول الناس، لا صدورهم، وأن كلامه قناعة، لا "وسوسة شيطان". لم تقبل بفشلها أمامه، فاستعانت بمعرفتها لِـطبيعة شخصه، لتثير أعصابه، وهي تضع العدالة في صلب السياسة؛ "لا تحسد ساستك على غناهم، تمسك بالصبر زاد الفقراء".

لم يطق جدي الذي كان يستمع لكلامهما ببراءةٍ، تكسوها الهموم، فخرج عن صمته؛ "الصبر كلمة فارغة، لو كان يغير أحوال الناس، لتغيرت منذ زمن، مطالب الناس لا تُنال بالصبر، والصابر على الظلم، وهو قادر على كسره، هو حليف للعبودية ضد نفسه". ما قلته صحيح يا جدي، تدخل أخي الأصغر، لكن حسد الأغنياء لمجرد غناهم لا يصح، كما تقول جدتـي.

- "لا تفكر على طريقة الأجداد يا خالد. جدتك تشابه عليها القول، وهي تهرف أكثر مما تعرف، الحسد في السياسة، مردُّه ضياع الحقوق. والقسمة الجائرة لخيرات الأوطان تخلق الحاسد والمحسود، والمذنب هو من في القمة، أعجزه الترف عن فهم معان كثيرة".

رد خالد، لِمَ يا جدي، دائماً، تربط كل شيء بالسياسة؟

أجابه بنظرة استعطاف؛ السياسة يا بني هواء نتنفسه، هي المعرفة والنِّتاج. السعادة أو الشقاء... أنا لست ابن مدرسة، ولم أدخل جامعة، لكن التجارب علمتني أن السياسة صلب الحياة، غير أنه، بعد تاريخ طويل من التجهيل، وهِم الناس أن مجالها محدود، وأنها شيء لا يقدرونه، صعب وخطير له أهله. ولم يدركوا أنها تدخل في كل شيء، بدءاً من كسرة خبزهم إلى كيف تؤكل، وأن الجاهل بها لا ترحمه من سجنها، ولو في واسع الفضاء. القسمة تولد من رحم السياسة، وهذه تضع لبنات المجتمع.. واسأل عباس، فهو أدرك مني لما أقول.

قامت جدتي من مكانها، تلعن عباس والسياسة، من دون أن تستوعب أغلب ما سمعت.

نظر خالد إلى أخيه الأكبر عباس، وسأله. أجاب عباس؛ هذا سؤال عميق، يا خالد، مفارقته تنكشف في الواقع، كم قبيح أن يظل المرء في واقعٍ يكرر أمامه التناقض، حجم الفساد قوي يُنجب حرماناً يولد شعوراً بالغرابة أمام خيرات الوطن المسروقة. الحقوق لا تُسترجع، والكلام عنها لا يسقط من أفواه الناس.

وما العمل؟ قاطعه خالد.

هذا سؤال طرحه لينين، وهو من أجاب عنه.. عفواً أنت لا تعرف من هو لينين. لكن، ها أنت تكرر سؤاله بطريقتك، وما أحوجنا للأسئلة المهمة، لأنها تأتي بالأجوبة المهمة.

تدخل جدي؛ تعيسٌ هو الوطن الذي يحتاج إلى أبطال، ألفنا، يا عباس، ضياع حقوقنا، حتى حجبت عنا رؤية الحقيقة، وأصبحنا كأننا نتنفس معطّلات الفهم. يقال، المرء إنْ ألف شيئاً منعه من رؤية أخرى، وهكذا، أصبحنا كأسماك في بركة ماء، لا تدرك ما يكون خارجه. لقد أُريد هذا ضداً عنا. اللعنة.

وماذا يريد مَن في عمرك، يا جدي، من السياسة؟ سأل خالد.

الإرادة لا تشيخ، "كلنا نريد، شعبٌ حر ووطن سعيد".

وما دخل السعادة في السياسة؟

قلتُها سابقاً، هي كل شيء "يا شارد الفهم".. هي التي تجلب سعادة الشعوب، أو تشقيهم.

أطلّت الجدة؛ قم يا جلول من مكانك. تملأ رأس الطفل بما لا يليق، كلامك طبخ رؤوس الجميع.

- أصبتِ يا نعجة.. في غياب الجماعة، الفكرة لا تتغلب على الإرادة، والخروف الواحد لا يؤثر في القطيع، هذا في غياب الذئاب، أما إن وجدت هذه، فالقصة يعرفها الراعي.

نظر إلى خالد؛ أنت، يا بني، لا تعرف مسؤولية الراعي، ستعرفها، لا شك. جدتك لا تعرفها، عباس يعرفها، ويعرف خصال الذئاب. هو، في نظرهم؛ إنسان واهم، ضباب الوهم يملأ رأسه، متهم بموجب خرق قاعدة الصمت، منذ زمن. لمّا تكلم لم يراع أن الواقع أقوى من المنطق الذي يقيس به. فوجد نفسه خارج التيار. كرِه نفسه لهذا الشذوذ، وقبل بالواقع كما هو مفروض. قيل له إن الكلام لا يغيره. ولا يشيد العروش. اتُّهم بإساءة استغلال حرية الرأي عن سوء فهم. وخلصتُ أنـا حينها؛ أن الجميع، متهم في وطن العرب، بموجب مادة في القانون، هي، من حيث المبدأ، تبحث عن أرقام تعتبرها مزعجة. ومضمون المادة أن القانون لا يحمي الجاهلين بقواعد الاستبـداد. والعقوبة كما نعيش يا صغيري، السجن مدى الحياة في الهواء الطلق..

أعرف أنك لم تفهم الكثير. لا بأس، عدم الفهم ليس فيه مسؤولية، هذه تقع، فقط، على من يفهم بعيداً عن التيار، كعباس، لأن عقوبة الكلام جاهزة التطبيق. قُم إلى حالك؛ جدتك تأمر بذلك، علينا، أن نمتثل، فنحن لم نتعلم غير ذلك. ولن ترفع الأقلام، ولن تجف الصحف، والحسد ينمو عن وعـــي.

- الكل يعرف؛ معاشات البرلمانيين وأجورهم المنفوخة سرقة لثروات الوطن.

- ويعرف عن الاختلاسات المالية الضخمة التي يكشفها المجلس الأعلى للحسابات، من دون حسابات.

- وأن جودة التعليم في انحدار غير مسبوق..

- وقطاع الصحة يدق ناقوس الخطر...
- ....

هذه نتائج ولّدتها أسباب، أما البكاء والعويل فلا يفيد في غياب علاج لِلْعلل. لا بد من اقتلاع الفساد، وكنسه، حتى تصبح العدالة بلونها الوحيد. لن ترفع الأقلام، ولن تجف الصحف. ولن يهدأ بال، ما لم تصبح مطالب الشعب في أقصى الاهتمام، مهما صغُرت.

avata
avata
لحسن عبود (المغرب)
لحسن عبود (المغرب)