شوارعنا المستعمَرة بأسمائهم

شوارعنا المستعمَرة بأسمائهم

06 أكتوبر 2023
+ الخط -

أثناء إعادة عرض الشاشات اللبنانية مقتطفات من تكريمها بوسام الأرز، تساءلت الراحلة للتو، الفنانة الكبيرة، نجاح سلام، عن السبب باقتصار التكريم دوماً على الميداليات والأوسمة، مضيفة أنّ "التكريم لا يكون فقط بالأوسمة، لم لا تسمّى شوارع لبنان بأسماء مبدعيه؟". 

صحيح، لِمَ تحمل بعض شوارع البلاد بدلاً من أسماء مبدعينا، إمّا أسماء سياسيين محليين وعرب، مختلف على تقييم أدوارهم وأدائهم، أو أسماء مستعمرين سابقين وأحداث لا تمّت لتاريخنا بصلة؟

ما علاقتنا بمعركة "فردان" بين الألمان والفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى، والتي قتلت ما يفوق المليون من الجانبين، وانتهت بما يسمّى انتصاراً دفاعياً للفرنسيين بقيادة الجنرال بيتان، الذي صُنّف بدوره خائناً فيما بعد؟ ما لنا ولهذه المعركة؟ ولِمَ يسمّى شارع رئيسي في بيروت باسمها؟ وما صلتنا بجورج كليمنصو، أحد رجالات تاريخ فرنسا، لنطلق اسمه على شارع رئيسي آخر في العاصمة؟

وإن كان من اللائق تكريم شخصيات أجنبية مؤثّرة إنسانياً، كالأدباء والشعراء والمخترعين الذين تنعم الإنسانية بكاملها بإبداعهم، عبر تسمية أحد الشوارع بأسمائهم، مثل بول فيرلين أو بابلو نيرودا أو غاندي أو ماري كوري إلخ... فإن تسمية شارع باسم الجنرال جورج كاترو، الشخص الذي أوجد كيان لبنان الكبير ونظامه الهجين كموطن للأقليات الدينية المدعومة فرنسياً، فهو أمر، لنقل إنّه على الأقل، ليس موضع إجماع كلّ اللبنانيين، وأنا التي أسكن في هذا الشارع منهم. 

قد يقول قائل، ومنذ متى كانت الأمور تقرّ بإجماع اللبنانيين؟ صحيح، فالانقسام اللبناني "بيولوجي"، طالما أنّ أساساته مبنية على أرض امتيازات الطوائف! 

لكن وظيفة البلديات والمحافظة والمؤسسات المعنية أن تمثّل مصالح كلّ سكان المدينة من دافعي الضرائب، أو على الأقل غالبيتهم، وبالمقابل هناك أسماء تجمع غالبية السكان عليها. فحين يتوّفر الإجماع، لِمَ يحلّ الاستفزاز مكانه؟ 

من سيعترض مثلاً على تسمية ساحة مهمة باسم فيروز مثلاً أو الأخوين رحباني؟ ومن سيزعل إن سمّي شارع رئيسي باسم نجاح سلام أو صباح أو وديع الصافي أو نصري شمس الدين؟ ومن سيعبس إن أطلق اسم اللغوي والعلامة الكبير، عبد الله العلايلي، على ناصية كهمة؟ أو اسم الناشر والأديب سهيل إدريس أو الملحن توفيق الباشا أو الشاعر الزجلي المدهش زين شعيب أو التشكيلي جورج قرم على شارع ما؟.

لِمَ تحمل بعض شوارع البلاد بدلاً من أسماء مبدعينا، إمّا أسماء سياسيين محليين وعرب، مختلف على تقييم أدوارهم وأدائهم، أو أسماء مستعمرين سابقين وأحداث لا تمّت لتاريخنا بصلة؟

ففي كلّ أنحاء العالم تعتبر أسماء الشوارع والساحات نوعاً من معرض منتقى لتاريخ إبداع أبناء البلاد ونضالات أهله، وما يؤثر في تراث الإنسانية، إن كان في السياسة أو الاقتصاد، أو غالباً، الفنون والآداب. 

لا بل إنّ تلك الأسماء التي تدرك البلديات أهميتها، خصوصاً في المدن العريقة كباريس مثلاً، فيينا، روما، إسطنبول أو دمشق أو القاهرة، تثبّت لوحات تذكارية تروي لعيون الناس الأحداث الأهم التي جرت في تلك الفسحة العامة والشخصيات التي قامت بها، إن كانت مقاومة وطنية، أو مكاناً لحدث استثنائي، أو شخصية عامة ذات تأثير. 

فالشارع هو فسحة عامة، وعلى الفسحة العامة أن تكون عامة، أي جامعة على الأقل. لكن في لبنان، وبسحر البنية الأساسية الطائفية للبلاد، تصبح الساحة العامة ساحة للقتال بين الهويات المنتقاة من كلّ جانب. 

هكذا، نجد في لبنان عامة وبيروت خاصة، شوارع وساحات تحمل أسماء شخصيات سياسية، قد تكون مهمة في تاريخ لبنان الحديث، لكن المشكلة أنّه لا اتفاق على قيمة ما قامت به، إن كان إيجابياً كما يقول جانب من المواطنين، أو سلبياً كما يصرّ على تقييمه جانب آخر لا يقلّ أهمية!

مثلاً، في منطقة الأشرفية، أي في نطاق ما كان يسمّى خلال الحرب الأهلية الأخيرة المنطقة الشرقية من بيروت (ذات الغالبية المسيحية)، هناك ساحة باسم بشير الجميل، الرئيس اللبناني المنتخب خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان برعاية دبابات العدو التي كانت تحيط بالبرلمان، والذي اغتيل قبل تسلمه مهامه. لكن بالمقابل، ونكاية ربّما، كان هناك مؤخراً سعي إلى تسمية شارع في بيروت الغربية، معقل الحركة الوطنية خلال الحرب الأهلية الأخيرة نفسها، باسم حبيب الشرتوني، الذي قام بعملية الاغتيال!

لدينا أيضاً في بيروت أوتوستراد حافظ الأسد الذي يكاد أعداء الرئيس السوري الداهية لا يعبروه لشدّة كرههم له. كما أنّه هناك ساحة باسم رئيس الوزراء السابق رياض الصلح الذي يكاد القوميون السوريون الذين اغتالوه في الأردن، يغتالوه مرّة ثانية لشدّة كرههم له، كونه المسؤول عن تصفية المفكر، أنطون سعادة، مؤسّس الحزب. 

الشارع هو فسحة عامة، وعلى الفسحة العامة أن تكون عامة، أي جامعة على الأقل. لكن في لبنان، تصبح الساحة العامة ساحة للقتال بين الهويات المنتقاة من كلّ جانب

أمّا ساحة عبد الحميد كرامي في طرابلس، فقد أصبحت برعاية الإسلاميين المتطرفين "ساحة الله"! فقد انتُزع التمثال القديم الذي كان يتوّسط الساحة لشهيد الاستقلال ابن طرابلس، ووضع مكانه مجسّم لكلمة الله، ما أضفى طابعاً ترهيبياً مقدّساً على المكان، لدرجة أنّ أحداً من البلدية أو المحافظة أو وزارة الداخلية لم يجرؤ على قلع المجسّم وإعادة التمثال القديم، وبالتالي الاسم إلى الساحة. 

وقد أضاف هؤلاء بمناسبات عدّة الى المجسّم لافتات كتب عليها أنّ طرابلس، عاصمة الشمال والمدينة الثانية في لبنان، هي قلعة المسلمين! أمّا ممن يتحصن المسلمون في هذه القلعة؟ وضد من؟ لا أحد يعرف. ربّما في الحرب المقبلة.
حسناً. ما الحل؟

حالياً لا يوجد. هناك سلوك وحيد يسلكه الناس ممن لا حول لهم ولا قوة: يتجاهلون التسميات ويستمرون في إطلاق تسميات عملية على الشوارع، من نوع نزلة "الفونتانا" على اسم دكان سابق هناك، بدلاً من شارع عبد العزيز، أو أسماء أثرت بهم فعلاً من نوع "نزلة السفير" على الشارع الذي كانت فيه جريدة السفير اللبنانية. وبالرغم من أنّي عملت فيها ثلاثة عشر عاماً، واستقللت كلّ يوم السرفيس إلى هناك، إلا أنّي، ولا مرّة عرفت أنّ للشارع اسماً آخر، رسمياً! 

فالناس، الذين يتجاهلهم أصحاب النفوذ بتسمية الشوارع، هم الذين يقرّرون بكلّ عفوية وتلقائية، ما الذي سيبقى ويدوم، ولو كان السياسيون، جماعة العلاقات العامة المؤقتة، يقرّرون الحاضر، حاضر سرعان ما سيمضي بعد تعليق اللافتة، دون أن يتمكن من أن يصبح ماضي المكان وذاكرته.