غزّة.. هل العالم موجود حقاً؟

غزّة.. هل العالم موجود حقاً؟

30 يناير 2024
+ الخط -

في أرجاءِ العالم حيث ترن حناجر الألم، تقف غزّة كشاهدة وشهيدة على الحالة الإنسانية المتردّية التي وصل إليها هذا العالم. فمعاناتها صامتة، كصرخة بلا صوت. تتردّد في وجدان الذين يجرؤون على الاستماع. وكفرد يتأمل في تفاصيل وجوده، أجد نفسي ملزمًة بالتأمل في ما إذا كان العالم حقًا موجودًا، وهل هو أصم عن سماع النداء اليائس من جانب غزّة؟ أم ماذا؟

في قلب غزّة، حيث يلوّن غروب الشمس السماء بألوانِ الألم، يمكن للمرء التساؤل: هل للألم لون؟ نعم. في غزّة للألم ألوان وأشكال مختلفة، وللقهر صدى صوت أبكم. وفي ظلّ كلّ هذه المعاناة لا يمكن للإنسان إلا أن يتساءل عن وحول جوهر هذا العالم، عن مكوّنات أخلاقه ومبادئه. هل نحن مجرّد مراقبين في مسرح كبير من اللامبالاة، أم أنّ إنسانيتنا الجماعية لا تزال تحمل قوةً لشفاء الجروح التي تنهشُ هذه الأرض القديمة؟

غزّة، مكان يلتقي فيه البحر بالأسى، وتشهد الأرض على ندوب الصراع. فهذا الشريط الضيّق من الأرض، موطن لأرواح صامدة، تُكافح تحت وطأة الاحتلال وجبروته وطغيانه على مرأى ومسمع من هذا العالم الذي يجعلك تقف صامتًا للحظة وأنت تحاول أن تدرك أو أن تفهم لماذا هذا الصمت المطبق. بالتأكيد لم يكن هذا الصمت الذي يقصده محمود درويش، حين قال: صمت من أجل غزّة!

ورغم علو الصوت، يبدو العالم بعيدًا ولا مباليًا، ففي الآذان وقرًا عن سماع هذه الآلام الملموسة المرئية المسموعة، والتي سوف تنبت، ولابدّ، أشجارًا وأحجارًا تنطق. أليس هذا وعد الآخرة؟

في غزّة للألم ألوان وأشكال مختلفة، وللقهر صدى صوت أبكم

كباحثة تستكشف التعقيدات السياسية للمنطقة، أجد نفسي أتصارع مع الواقعيات الصارخة التي تعتري وضع غزّة. الديناميات الجيوسياسية، والصراعات التاريخية، والسعي اللافت للنظر إلى السلطة كلّها اندمجت لتخلق وعاءً لليأس، وفي هذا الوعاء، يتم اختبار ضمير العالم. فهل العالم موجود حقًا؟ هل يرى عندما تصطاد آلة الحرب الإسرائيلية تلك الأرواح البريئة؟

نداء غزة اليوم، ليس مجرّد صرخة من أجل البقاء؛ بل هو مطالبة بالاعتراف، ونداء للتضامن يتجاوز الحدود والأيديولوجيات. ولهذا، أجد نفسي مضطرًة دائمًا للسؤال: أي دور يلعبه العالم في صياغة السياسات التي، إمّا أن تديم المعاناة أو تفتح الطريق لمستقبل أكثر إنصافًا؟

للرد على هذا السؤال، علينا الانخراط في التأمل الجماعي. العالم، كما نعرفه، ليس مراقبًا ساكنًا؛ بل هو مسرح حيث يلعب الأفراد وصانعو السياسات والمثقفون دورًا. وبينما نفتح طبقات التعقيد المحيطة بغزّة، علينا الاعتراف بترابط وجودنا العالمي.

الحرب في غزّة ليست مجرّد أزمة محلية؛ بل هي اختبار للضمير الجمعي للإنسانية. وهذا العالم بكلّ تعقيداته، يعتمد على قدرتنا على مواجهة ومعالجة الصرخات الصامتة الناشئة من أماكن مثل غزّة. وحينها فقط، يمكننا أن نأمل في نسج سرد للرحمة والعدالة في عالم يكون حقًا موجودًا للجميع.

تقوى نضال أبو كميل
تقوى نضال أبو كميل
باحثة سياسية، حاصلة على درجة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولة، وتعمل حاليًا كباحثة في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA). تتركز اهتماماتها البحثية الرئيسية على نشاط حقوق الإنسان والسياسة في الشرق الأوسط، السياسة الانتخابية. تعرّف عن نفسها، بمقولة غسان كنفاني "أنا من شعب يشتعل حبًا، ويزهو بأوسمة الأقحوان وشقائق النعمان على صدره وحرفه، ولن أدع أحدًا يسلبني حقي في صدقي".